الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الانحراف المؤدي إلى التفريط في الإيمان بالقضاء والقدر
.
لقد شغلت قضية القضاء والقدر أذهان الفلاسفة وأتباع الطوائف من أهل الملل من قديم الزمان، وما زالت حتى يومنا هذا، وضلال أهل الأهواء والبدع في هذا الأصل العظيم كضلالهم في باقي الأركان، وهذا ما وضحه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من زعم بعضهم بأن الله لا يقدر الأمور، وإنما تسير على حسب جريان الدهر، فقال تعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} الجاثية: 24.
وكانت
البداية لنشأة الاختلاف والكلام في القدر
، تدور على أمرين:
أحدهما: نفي علم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها
، وبالتالي نفي الكتابة، وهذا التقدير ينكره غلاة القدرية الأوائل، وقد انقرض مذهبهم (1)، كما ينكره الفلاسفة، القائلون: بأن الله لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم الأشياء على وجه كلي، أي: يعلم الكليات دون الجزئيات (2).
وقد تأثر اليهود والنصارى بالفلسفة القديمة، وتجد في كتبهم المحرفة ما يفيد إنكار علم الله تعالى (3).
الآخر: نفي خلق الله تعالى لأفعال العباد
، والقول بأنها ليست واقعة بقدره، وأن العباد يخلقون أفعالهم (4)، فجعلوا لله شريكاً في خلقه، واستدلوا استدلالاً أعور ببعض الآيات،
وأولوا ما عدا
(1) ينظر: فتح الباري (1/ 119)، وسطية أهل السنة بين الفرق (ص 371).
(2)
قال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي: " وإذا كان الله بزعمهم لا يعلم الشيء حتى يكون كيف علم في مذهبهم بقيام الساعة والبعث، ولم تقم الساعة بعد ولا تقوم إلا بعد فناء الخلق وارتفاع الدنيا .. ! فإن أقروا لله بعلم قيام الساعة والبعث والحساب، لزمهم أن يقروا له بعلم كل شيء دونها، وإن أنكروا علم الله عز وجل بما دونها، لزمهم الإنكار بها وبقيامها، وبالبعث والحساب؛ لأن علمه بالساعة كعلمه بالخلق وأعمالهم سواءً، لا يزيد ولا ينقص، فمن لم يؤمن بأحدهما، لزمه أن لا يؤمن بالآخر، وهي من أوضح الحجج، وأشدها على من رد العلم وأنكره" الرد على الجهمية (ص 69)، وينظر: درء التعارض (9/ 397)(10/ 179).
(3)
زعم اليهود أن الله تعالى: لا يعلم الغيب، ويحتاج إلى علامات يميز بها بني إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل، ليميزها عن بيوت المصريين حتى لا يهلكهم. أما النصارى فقد جعلوا المخلوق إلهاً، ونفوا عن إلههم أن تكون له إرادة، ومشيئة، وعلم بما يحصل له، أو لمخلوقاته، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً! . ينظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (ص 249).
(4)
وهذا المذهب هو الذي تبنته المعتزلة وجعلته أصلاً من أصولها التي قام عليها كيان الاعتزال، وبسبب قولهم به عرفوا بالقدرية، لنفيهم القدر. ينظر: المقالات للأشعري (1/ 338)، وسطية أهل السنة بين الفرق (ص 371).
ذلك مما يخالف مذهبهم، وهذا التقدير ينكره متأخرو القدرية، بينما يثبتون علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها (1).
ولو ذهبنا نستجلي أقوال الناس في هذه المسألة لوجدنا أنها هي هي، لم تتغير قبل الإسلام أو بعده، فهي ترجع دائماً إلى ثلاثة أقوال (2):
1 -
قول الجبرية (3): الذين يقولون: بأن الله هو الخالق للأفعال، بينما الإنسان مجبور على أفعاله.
2 -
قول أهل حرية الإرادة (4): الذين يقولون: إن الله لا يوصف بأنه يخلق فعل العبد، بل الإنسان مستقل في أفعاله عن خالقه، وأنه هو الذي يخلق أفعاله، وهم يقولون هذا لسببين:
أ-أن فعل العبد فيه الأشياء المشينة مثل: الكفر، والزنا، والسرقة، والقتل .. إلخ، ولو قيل: أن الله هو الذي يخلق هذه الأشياء، لصار في هذا نسبة للأشياء السيئة إلى الله، وهو منزه عنها.
(1) ينظر: فتح الباري (1/ 119)، وسطية أهل السنة بين الفرق (ص 371). ينظر: الفرق بين الفرق (ص 25)، درء التعارض (9/ 396)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 200)(3/ 450)(4/ 775)، مجموع الفتاوى (8/ 419).
(2)
ينظر: القضاء والقدر في الإسلام، د. فاروق الدسوقي (1/ 1 - 38)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود (3/ 1308 - 1330)، تناقض أهل الأهواء والبدع (1/ 359 - 360).
(3)
الجبرية هم نفاة الفعل حقيقة من العبد، وإضافته إلى الرب تعالى، وأشهر من يمثلها: الجهمية، والقائلين بالكسب من الأشاعرة، وهم أصناف: منهم الجبرية الخالصة: التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً، والجبرية المتوسطة: التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة.
ينظر: الملل والنحل (1/ 72)، والتعريفات (ص 74). ينظر: تفصيل مذهبهم في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 103 - 106)، والملل والنحل (1/ 85 - 86) وما بعدها، والبرهان للسكسكي (ص 42 - 43).
(4)
وهم القدرية وسموا بذلك لتكذيبهم القدر، ومقولتهم قائمة على أن العبد خالق لأفعاله كلها، خيرها وشرها استقلالاً، وأول ما ظهر عنهم هو أن الأمر أنف، أي مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه. وكان أول من تلكم به رجل نصراني يقال له سنسويه البقال، وسماه الأوزاعي سوسن، أسلم ثم عاد فتنصر، فأخذ عنه معبد الجهني البصري وأخذ عنه معبد غيلان ابن مسلم الدمشقي. وقد أطلق السلف رحمهم الله تعالى هذا الاسم على المعتزلة أيضاً، ووصموها به لكونهم نفوا قضاء الله وقدره في معاصي العباد.
ينظر: السنة للخلال (ص 526 - 528)، ومعالم السنن للخطابي (4/ 317 - 320)، وغريب الحديث للخطابي (2/ 393 - 394)، وشرح النووي لصحيح مسلم (1/ 153 - 156)، والبرهان لسكسكي (ص 50).