الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذلك فإن معرفة حدود المشروع - من المأمور به والمنهي عنه- من أنفع الأشياء للعبد؛ حتى لا يُدخل فيها ما ليس منها، فيكون غالياً مُفْرِّطاً، ولا يُخرج منها ما هو داخل فيها، فيكون مقصراً مُفَرِّطاً (1).
وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط، وهو معنى قول مطرف بن عبدالله:"الحسنة بين السيئتين"(2) وبه نعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى.
-
العلاقة بين الغلو والبدع:
الدليل على هذا تقارب معنى الغلو ومعنى البدعة، أن البدعة اصطلاحاً هي: الإضافة إلى الدين (3)، يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله:" ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدّل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدّل عليه فليس ببدعة شرعاً وإنْ كان بدعة لغةً"(4).
والغلو (5) في الدين نقيض الجفاء عنه، حيث إن مضمون الأخير التساهل في التدين الذى يلزم منه التقصير في الالتزام بضوابط الدين، غير أن كليهما يلتقيان في المحصلة (عدم الالتزام بضوابط الدين سواء بتجاوزها أو التقصير في الالتزام بها).
يقول ابن القيم رحمه الله: " ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين"(6).
(1) ينظر: الفوائد لابن القيم (ص 205 - 206).
(2)
ينظر: عيون الأخبار لابن قتيبة (1/ 138)، وغريب الحديث لابن سلام (2/ 28)، ومجموعة رسائل ابن رجب الحنبلي، جمع: أبو عادل العزازي (ص 133).
(3)
موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع، أ. د. إبراهيم الرحيلي (ص 91 - 93)، وينظر: الاعتصام (1/ 38)، وقواعد في معرفة البدع (ص 22).
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي ت. الأرناؤوط (2/ 127).
(5)
والغلو آفة تصيب التدين ككسب بشرى، لا الدين كوضع إلهي.
ينظر: الغلو مفهومة وحقيقته وصوره وأسبابه وعلاجه، لعبد الله بن محمد الغليفى (ص 9).
(6)
مدارج السالكين (2/ 496، 517)، وينظر: مفتاح دار السعادة (3/ 303)، وكتاب الروح (ص 347).
ومما سبق من التعريف اللغوي للغلو وما ورد فيه من آيات وأحاديث (1)، وكذلك تعريف العلماء وبيان ضابطه، يتضح المعنى الشرعي للغلو بأنه:
مجاوزة الحد (2) المشروع، بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشارع (3).
وبعد أن تبين لنا معنى (الغلو) لغة وشرعاً، فهناك ألفاظ شرعية، بَينَها وبين لفظة الغلو تقارب مثل: التنطع، والتشدد، والتعمق، والتطرف، والعنف وغيرها (4)،
كما أن هناك ألفاظاً
(1) ولست بصدد ذكر الأحاديث التي تنهى عن الغلو وتذمه تصريحا به وغير تصريح، فهي كثيرة جدا، إلا أن من أشهرها قصة حديث أنس المشهور في قصة الثلاثة الذين جاءوا وسألوا عن عمل الرسول، صلى الله عليه وسلم في السر، فكأنهم تقالوا، فكان من مقولتهم ما هو معروف، وكيف واجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم هذا الأمر.
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 289)، ومشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر: الأسباب -الآثار- العلاج، د. عبدالرحمن اللويحق (1/ 23 - 27)، والغلو وأثره في ظاهرة التكفير (2503).
(2)
الحدود: هي النهايات لما يجوز من المباح المأمور به، وغير المأمور به.
ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 362).
(3)
ينظر: كتاب الوسطية في ضوء القرآن (ص 40).
(4)
بيان معاني هذه المصطلحات باختصار، كالتالي:
التنطع: يقال: تنطع في الشيء: غالى فيه وتكلف، وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة، وقد ورد في الشرع النهي عن التنطع، في قوله صلى الله عليه وسلم:((هلك المتنطعون)). ينظر: مختار الصحاح (ص 666)، المعجم الوسيط (2/ 930)(نطع).
والتشدد: يقال: شدد في الأمر: غالبه وبالغ فيه، والشدة: الصلابة، وهي نقيض اللين، والتشدد نقيض التخفيف. ينظر: لسان العرب (3/ 232)، الصحاح (2/ 493)، النهاية في غريب الحديث (2/ 451)، فتح الباري (1/ 94).
والتعمق: هو بمعنى التشدد، يقال: تعمق في كلامه أي: تنطع، والمتعمق: المبالغ في الأمر المتشدد فيه، الذي يطلب أقصى غايته، المتكلف ما لم يكلف به. وقد جمع الإمام البخاري بينه وبين الغلو في بعض تراجم في الصحيح، فقال:"باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع" ينظر: صحيح البخاري كتاب الاعتصام (13/ 325) برقم (7241)، وفتح الباري (4/ 302)، الصحاح (4/ 1533)، لسان العرب (10/ 271)، النهاية في غريب الحديث (3/ 299)، ومعجم المناهي اللفظية لبكر أبو زيد (ص 190).
والتطرف: كثر استعماله في الوقت الحاضر للتعبير عن الغلو، فالتطرف: الناحية من النواحي، وطرف كل شيء: منتهاه، وتطرف الشيء: صار طرفاً، وتطرف في كذا: جاوز حدَّ الاعتدال ولم يتوسط. ينظر: لسان العرب (9/ 216 - 217)، معجم مقاييس اللغة (2/ 90).
والعنف: ضد الرفق، وهو الشدة والقسوة، في القول أو الرأي أو الفعل أو الحال. ينظر: لسان العرب (9/ 257 - 258)، القاموس المحيط (3/ 178)، النهاية لابن الأثير (3/ 309).
والتعنت: هو الإثم والوقوع في أمر شاق، والعنت: المشقة والفساد والهلاك، والتشدد والتعنت بمعنى واحد. ينظر: الصحاح (1/ 258)، ولسان العرب (2/ 61)، النهاية في غريب الحديث (3/ 306).
التحمس: أي: التشدد في الأمر، والأحمس: الشديد الصلب في الدين. ينظر: معجم مقاييس اللغة (ص 282)، الصحاح (3/ 920)، النهاية في غريب الحديث (1/ 440)، فتح الباري (3/ 516).
وبعض هذا المصطلحات بمثابة مظاهر وأوصاف للغلو: فالغالي يتسم في أخذه للدين بالشدة، وفي معاملة الآخرين بالعنف، ويتسم بالتنطع والتعمق في أعمال الدين. ينظر: الغلو في الدين في الحياة المعاصرة (ص 62).