الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الانحراف المؤدي إلى التفريط في الإيمان بالرسل
.
إذا كان الناس في القدم يجادلون الرسل، ويرفضون علومهم، ويعرضون عنهم، ويكذبونهم بعد وضوح الحق، ويظهرون لهم التعنت بطلبهم أمورا ليست من قدرة البشر لتعجيزهم، ويؤذونهم -عليهم الصلاة والسلام- (1)، مع توافر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الإيمان بهم، فإن البشر اليوم في القرن العشرين -حيث بلغت البشرية ذروة التقدم المادي، فغاصت في أعماق البحار، وانطلقت بعيداً في أجواز الفضاء، وفجرت الذرة، وكشفت كثيراً من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود- أشد جدالاً للرسل، وأكثر رفضاً لعلومهم، وأعظم إعراضاً عنهم، بحجة أن في شريعة الله حجراً على عقولهم، وتوقيفاً لركب الحياة، وتجميداً للحضارة والرقي (2)، وقد أقامت الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل، بل إن بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستورياً، وهو الذي يسمى بالعلمانية (3).
وهذا كله شطط بل خروج عن منهج القصد والحق في الاعتقاد بهم.
ونأتي للوقوف على طرق الانحراف المؤدية إلى التفريط في الإيمان بالرسل، وهي:
-
أولاً: إنكار أن يختص الله تعالى بهذه الرحمة والمنّة من يشاء من عباده:
من نظر في الكتب المنزلة، وتصفح ما رواه علماء الأخبار، اتضح له اعترافهم بإمكان الوحي وحاجتهم إليه، حتى الكفار؛ فإنهم إنما استبعدوا أن يختار الله لوحيه رسولاً من البشر.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} هود: 25 - 27، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار التي تدل على أن إنكار الرسل لم يكن لأصل الرسالة ولا
(1) ينظر: كتاب المقولات التي أبطلها القرآن ومهجه في إبطالها من (269 - 335).
(2)
ينظر: الرسل والرسالات (ص 29 - 30). تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (1/ 343 - 345).
(3)
العلمانية: حركة تهدف إلى فصل الدين وعزله عن شؤون الحياة العامة في الحكم والسياسة والاقتصاد والشؤون الاجتماعية والتعليمية وغيرها، وحصره في المسجد أو الضمير فقط.
ينظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 103)، للشيخين د. ناصر القفاري، أ. د. ناصر العقل.
لحاجتهم إليها، وإنما كان لبعث رسول الله إليهم من جنسهم (1)، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل وصفوا بعض الخلق بالقداسة ورفعوهم فوق منزلة الأنبياء والرسل، فجعلوا هذه المنزلة تنال بالكسب لا بالاصطفاء.
والذي جلب لهم هذا الخلط والاضطراب، توهمهم: " استبعاد اختصاص الله تعالى بعض البشر بهذا التفضيل على سائرهم وهم متساوون في الصفات البشرية بزعمهم
…
" (2)، وقريباً من موقف العرب، يقف اليهود "الذين أنكروا أن يختص الله تعالى بهذه الرحمة والمنة من يشاء من عباده، وأوجبوا عليه أن يحصر النبوة في شعب إسرائيل وحده (3)
…
ووافقهم النصارى على حصر النبوة فيهم وأثبتوا قداسة غير الأنبياء من رسل المسيح وغيرهم من البابوات والعباد
…
" (4).
ونحى نحوهم الشيعة في تقديس أئمتهم (5)، والصوفية في تقديس أوليائهم وتفضيلهم على الأنبياء (6)، وادعى الفضيلية من الخوارج أنهم أفضل من الأنبياء، حيث أجازوا الكفر على الأنبياء، باعتبار تجويزهم للذنوب عليهم، وكل ذنب فإنه كفر عندهم، والأزارقة من الخوارج، أجازوا أن يبعث الله نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته، حكي عن أبي جعفر السمناني (7)
أنه يقول
(1) الحكمة من إرسال الرسل عفيفي (ص 19 - 20).
(2)
الوحي المحمدي لرشيد رضا (ص 198).
(3)
كُفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض، من المسلم به أن الرسل كلهم متفقون في أصل الدين، فلزم من ذلك أن من أقر بنبوة البعض دون الآخر فإنه كافرٌ بالجميع، وذلك لاتفاقهم جميعاً في أصل رسالتهم، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الشورى: 13، ولهذا كان الإيمان بهم جميعاً ركنا من أركان الإيمان الستة. ينظر: المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع (ص 783).
(4)
الوحي المحمدي لرشيد رضا (ص 198).
(5)
الشيعة يجعلون الولي أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل بلغ بهم الغلو إلى أن جعلوا الأئمة كالإله؛ يعلمون الغيب وبيدهم النفع والضر، فيتصفون بالصفات التي يتصف بها الإله لأنه على حسب زعمهم أنّ روح الإله تحل فيهم كما حلت في علي رضي الله عنه.
ينظر: التنبيه والرد (ص 29)، والفرق بين الفرق (ص 204)، الملل والنحل (1/ 174)، والبرهان (ص 67).
(6)
يقول ابن عربي في فصوصه: "مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي" فرتبة الولاية عنده أعظم من رتبة النبوة لأن الولي يأخذ بلا واسطة والنبي بواسطة، وهو كلام ساقط يعرف بطلانه عوام الناس فضلا عن علمائهم! ! قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:" وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} الأنعام: 124، ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون، زنادقة اتحادية في الدرك الأسفل من النار" شرح الطحاوية (ص 494). ينظر: فصوص الحكم (1/ 63)، وينظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية (ص 40)، غلم الغيب في العقيدة الإسلامية، د. أحمد الغنيمان (ص 278 - 279).
(7)
هو: أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد السمناني الحنفي الأشعري، قاضي الموصل، كان مقدَّم الأشعرية في وقته، تتلمذ على الباقلاني، وتتلمذ عليه أبو الوليد الباجي، ولد سنة 361 هـ، وتوفي سنة 444 هـ بالموصل.
ينظر: تاريخ بغداد (1/ 355)، وسير أعلام النبلاء (17/ 651).
بجواز الكفر على الأنبياء، حكاه عنه ابن حزم (1)، كما أجازت الرافضة على الأنبياء إظهار كلمة الكفر تقية إذا خافوا على أنفسهم، احترازاً من إلقاء النفس إلى التهلكة (2)، بل ظهر من يدعي النبوة، ومن يزعم بأن النبوة لم تختم بالنبي صلى الله عليه وسلم كالقاديانية (3).
وقد نقل شيخ الإسلام وغيره الاتفاق على أن الأنبياء عليهم السلام هم أفضل الخلق، فقد حفظهم الله تعالى "من تغير الفطرة، ومن الخطأ فيما يبلغون عنه من وحي، ومن اقتراف كبائر الذنوب، وما يستقذر من صغائرها، وعدم إقرارهم على ما يمكن وقوعه منهم من المعاصي"(4)، لذلك اجتباهم عز وجل واصطفاهم على سائر البشر و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام: 124، فهم أعلم وأتقى من عبد الله من الخلق، كما أنهم أعلم الناس بالحقائق (5)، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الله، ولا يجهله عامة الناس فضلا عن علمائهم (6).
(1) ينظر: المسائل العقدية المتعلقة بالحسنات والسيئات (1/ 427)، والملل والنحل (1/ 155)، والفصل لابن حزم (4/ 5).
(2)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (1/ 161)، واللوامع (2/ 305).
(3)
هي فرقة نشأت عام 1318 هـ في شبه القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم، ورأس هذه الفرقة هو ميرزا غلام أحمد القادياني، المولود في قرية قاديان في البنجاب بالهند سنة 1255 هـ، كان معروفاً عند أتباعه باختلال المزاج وكثرة الأمراض وإدمان المخدرات، وله أكثر من خمسين كتاباً ونشرة ومقالاً، على هذا المعتقد الخبيث، منها: إزالة الأوهام، وإعجاز أحمدي، وبراهين أحمدية، وأنوار الإسلام، وغيرها، وقد هلك بالطاعون سنة 1326 هـ.
ويعيش معظم القاديانيين الآن في الهند وباكستان، ومن معتقدهم الخبيث أن الله يصوم ويصلي وينام ويصحوا -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- كما يعتقدون أن النبوة لم تُختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل هي جارية، وأن الله يرسل الرسل حسب الضرورة، وأن غلام أحمد هو أفضل الأنبياء جميعاً، وكل مسلم عندهم كافر حتى يدخل القاديانية.
وفي شهر ربيع الأول سنة 1398 هـ أصدر مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة، قراره الذي أعلن فيه كفر هذه الطائفة وإخرجها عن الإسلام.
ينظر: القاديانية لإحسان إليهي ظهير، والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة لعبد القادر شيبة الحمد.
(4)
منهاج السنة (2/ 417)، وينظر: الإحكام للآمدي (1/ 146)، ولوامع الأنوار (2/ 304 - 305).
(5)
زندقة من زعم أنه أعلم من الرسل بالحقائق، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق، وأحسن بياناً لها فهذا زنديق منافق إذا أظهر الإيمان بهم باتفاق المؤمنين". مجموع الفتاوى (4/ 101).
(6)
إنما ذكر شيخ الإسلام هذا الإجماع في معرض رده على الفلاسفة الزنادقة الذين ظهروا بعد القرون الأولى الموصوفة بالخيرية.
ينظر: المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع (ص 782).