الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يونس: 18، وهذا اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه لا يَرُدُّ الله تعالى طلبه كما هو الشأن في المخلوقين.
فرد الله عليهم هذا المعتقد الفاسد في قوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، فبين الله تعالى أن شفاعة الملائكة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن ارتضى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} الأنبياء: 28 - 29، فذكر هذا الوعيد في الملائكة تنبيهاً على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحد من المخلوقين، لا ملك ولا غيره، وأنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم، فكيف بمن دونهم؟ وهذا التخصيص لإفراد الله بالإلهية (1).
كما جاء في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} ، بيان لحال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عُبد من دون الله فإذا كان حالهم مع الله ما ذُكر من هيبتهم منه وخشيتهم له فكيف يُدعون مع الله، فغيرهم من باب أولى. ففي ذلك ردٌّ على جميع المشركين الذين يدعون مع الله من لا يُداني الملائكة (2).
-
ثالثاً: المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان
.
المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان هو: قياسهم الفاسد، فمنهم من قاس الملائكة الكرام على المحسوسات فأنكر المغيبات، ومن ذلك عالم الملائكة الغيبي، وبعضهم
(1) كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس (ص: 279).
(2)
ينظر: الملخص في شرح كتاب التوحيد (ص: 134).
أنقصها عن قدرها الذي ارتضاه الله عز وجل لها، فلم يتقرب إلى الله بحبها ولم يطمع في شفاعتها؛ لأن الشفاعة كذلك أمر غيبي (1).
ومنهم من قاسها على المخلوقين، فاتخذ الملائكة شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوقين؛ لأنهم أهل قرب ومنزلة وجاه وفضل، ومن كان كذلك فقد تأهل للشفاعة، قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} يونس: 18، فنفى الله عز وجل هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون، وظنوها حاصلة ممن قصدوه وتوجَّهوا إليه، وسألوه رغبا ورهبا.
رابعا: أثر اجتماع الرد على البدع المتقابلة في موطن واحد.
أتت هذه الآية الكريمة للدلالة على أن المذهب الحق هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، فهم وسط في مسألة الشفاعة بين الغلاة والجفاة، فقد أجمعوا على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم وللملائكة والصالحين من عباد الله تعالى، كما نطَق بذلك القرآن العزيز والسنَّة الصحيحة المتواترة، وبذلك انعقد إجماع أئمَّة الأمة، ولم يشذَّ عنهم إلا المُبتدعة من الفِرَق المارقة، ومن ثَمَّ كانت من المعلوم من الدين بالضرورة.
وكما أثبت أهل السنة الشفاعة، فهم لا يطمعون فيها إلا بشروطها (2)، قال تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} سبأ: 23، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} سبأ: 22.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقباً على الآيتين السابقتين: " نفى عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط من الملك أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} البقرة: 255. وقال تعالى عن الملائكة: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ (27)
(1) هذه الغيبيات لا مصدر لها إلا الله ورسوله، وليس أمام المؤمنين إلا الإيمانُ بها كما وردتْ، أما العقل والاجتهاد، فليس لهما فيها مجال، من أجل هذا ضل من ضل في هذا الباب لعدم إيمانهم بالغيب، وعدم امتثالهم لكل ما جاء في الكتاب والسنَّة.
(2)
إذن الله للشافع أن يشفع- وأن يرضى الله عن الشافع- وأن يرضى الله عن المشفوع له.
ينظر: قرة عيون الموحدين (ص 97).
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} الأنبياء: 27 - 28. وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} النجم: 26، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن" (1).
(1) الإيمان (ص 66).