الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الانحراف المؤدي إلى التفريط في الإيمان بالملائكة
.
تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الملائكة، ومع كل هذا نجد من فَرط في هذا الركن العظيم، فأثبت وجودهم، لكنه انحرف إلى الاستهزاء بهم أو سبهم فقال: إنهم بنات الله وهذا اعتقاد العرب المشركين قديماً، أو أنهم خانوا الأمانة كما زعمت الشيعة (1)، أو وصفهم بالشهوة والأكل والشرب إلى غير ذلك (2).
وهذا كله شطط وخروج عن منهج القصد والحق في الإيمان بالملائكة.
ويمكن الوقوف على طرق الانحراف المؤدية إلى التفريط في الإيمان بالملائكة الكرام، من خلال ما يلي:
-
أولاً: الإيمان بالمحسوسات فقط:
ظهرت دعوى أنه لا إيمان إلا بما يقع عليه الحس، وأن كل ما لا يقع عليه الحس غير موجود (3)، فأنكر الغلاة من أجل ذلك ما جاءت به الأديان السماوية من حقائق غيبية أيقن بوجودها العاقل -لإخبار الصادق بها- وتقبلتها الفطرة بارتياح، إذ إن الحس ليس كل شيء في المعرفة فهناك مغيبات لا يتناولها الحس.
وهؤلاء الملحدون حصروا العلوم المدركة في دوائر ضيقة، فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه بذلك نفوه، وهذا باطل، بل قصور في العلم (4)؛ لأن وسائل العلم ثلاثة:
1 -
المعرفة المباشرة، وتكون بالإدراك الحسي، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات.
2 -
الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الاستنتاجية والاستنباطية الصحيحة، والمؤيدة بالحجج والبرهانية أوالمقبولة.
(1) الغرابية-إحدى فرق الشيعة-: وهم القائلون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بعلي رضي الله عنه من الغراب بالغراب وإلى هذا القول نسبوا، وهذه الفرقة تقول لأتباعها: العنوا صاحب الريش يعنون جبريل عليه السلام، ويقولون: بوجوب النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبكفر جماعة من الصحابة رضي الله عنهم إذ جحدوا إمامة علي، وكفروا علياً إذا سلم الأمر لأبي بكر رضي الله عنه، ثم رجع إلى الإيلام لما تولى الخلافة ولهم أقوال كثيرة وأباطيل يناقض بعضها بعضاً.
ينظر: الملل والنحل (4/ 183)، التنبيه والرد (ص 34)، التبصير في الدين (ص 128)، البرهان (ص 73 - 34).
(2)
ينظر: الحجة للأصفهاني (2/ 390)، وفتح الباري (6/ 343)، والفصل لابن حزم (1/ 90)، والفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي (ص 279).
(3)
ينظر: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (4/ 33)، ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم اختصار ابن الموصلي (ص 146).
(4)
ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص 139)، والأدلة والقواطع والبراهين (14 - 15).
3 -
الخبر الصادق، ومن الخبر الصادق الوحي الذي يتلقاه نبي من أنبياء الله مؤيد بالمعجزات الباهرات ويبلغه عن الله (1).
قال ابن القيم رحمه الله: " المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحس والعقل، بل لا نسبة بينها بوجه من الوجوه، ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة، والمعلومات التي لا تدرك بالحسِّ والأمور الغائبة عن الحس نسبة المحسوس إليها كقطرة من بحر، ولا سبيل إلى العلم بها إلا بالخبر الصادق"(2).
والإيمان بالمحسوسات فقط نداء إلى الجهل والطيش والوقوع في الحيرة والوسوسة؛ لأننا إذا أبطلنا كل العلوم عدا المحسوسات، فإننا قد أبطلنا علوماً جمة، ومعارف كثيرة (3).
ووجود هذا العالم العجيب المحكم عند من يؤمنون بالمحسوسات فقط، يضطرهم إلى القول بالمحارَات، الوقوع في المحالات، فإنه يلزمُ حينئذٍ إمَّا القول بِقِدَمِ العالم، والقِدَمُ بنفسه هو أعظم المحارات، أو القول بحدوثه من غير مُحدِثٍ ولا مُرَجِّحٍ، وذلك من أعظم المحالات (4).
والحقيقة أن أصل التعطيل ومنشأ التفريط هو: انحرافهم في باب الإيمان بالغيب (5)،
الذي يتفاضل فيه الناس ويتفاوتون، لذا كان الإيمان بالغيب ركيزةً أساسيةً من ركائز الإيمان في الرسالات السماوية كلها. فقد جاءت هذه الرسالاتُ بكثير من الأمور الغيبية التي لا سبيل
(1) ينظر: الاستقامة (2/ 29)، درء التعارض (9/ 21)، الأدلة والقواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين للسعدي (ص 15).
(2)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 873).
(3)
يلاحظ اتساع الفساد في هذا الباب مع ظاهرة الإلحاد الحديثة، وهي ظاهرة غزت في فترة الطفرة العلمية الحديثة مجالات مختلفة من الفكر الغربي الحديث، وإذا دخل الإلحاد إلى مجال الفكر، وأصبح موضة للمفكرين، فمن المنطقي انعدام جدوى الإيمان بقضايا الغيب الدينية كلها. ينظر: أمثلة لهذا الإنكار عند بعض العقلانيين المعاصرين في كتاب عالم الجن، لعبد الكريم عبيدات (ص 118 - 169).
(4)
ينظر: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (4/ 33).
(5)
الغيب في الإسلام هو: كل ما غاب عن حسِّ الإنسان سواءٌ بقي سرًّا مكتوما يعجز الإنسانُ عن إدراكه بحيث لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، أو كان مما يعلمه الإنسانُ بالخبر اليقين عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يعلمُ الإنسانُ بعض الغيب بتحليله الفكري أو نحو ذلك من الوسائل. (وذلك في بعض ما يمكن الوصول إليه بالوسائل المساعدة، على توسيع مدى الحواس مثل المناظير وغيرها من الأجهزة، وهذا مما يدخل في الغيب النسبي كما سنرى).
ينظر: مجموع الفتاوى (14/ 51)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 163)، وعالم الغيب في الشريعة الإسلامية. د. أحمد الغنيمان (ص 25 - 31).
للإنسان إلى العلم بها إلا بطريق الوحي الثابت في الكتاب والسنة، كالحديث عن الله تعالى وصفاته وأفعاله وعن السماوات السبع وما فيهن، وعن الملائكة والنبيين والجنة والنار والشياطين والجن وغير ذلك من الحقائق الإيمانية الغيبية، التي لا سبيل لإدراكها والعلم بها إلا بالخبر الصادق عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم (1).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله بعد أن ذكر جملة من الأحاديث الواردة في شأن الملائكة وصفاتهم-: "وفي هذا وما ورد من القرآن رد على من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة"(2).
لذلك فإن أعظم الناس إنكاراً لها الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء، فالملائكة عندهم هي القوى العقلية المجردة، فليس هناك ذات منفصلة تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، وترى وتخاطب الرسل، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان (3)، فأنكروا رؤيتها؛ لأنها ليست أجساماً عندهم، كما يلزم من إنكارهم للملائكة أيضاً إنكار الوحي ونزول جبريل عليه السلام به، وإنكار النبوة، وإنكار الجن، وإنكار اليوم الآخر، إلى غير ذلك من الجحود لآيات الله تعالى، الذي يناقض الإقرار والتصديق، ومن ثَمَّ فقد توعّد الله تعالى أولئك المنكرين لآياته، المكذبين بها بالعذاب المهين والخلود في نار جهنم.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)} الأعراف: 40.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} الحج: 57.
بل إن صفة الجحود لتلك الآيات لا تقوم إلا في الكفار، كما قال تبارك وتعالى:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} العنكبوت: 47.
والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمبادئ الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما:
الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
(1) ينظر: أركان الإسلام، لعلي بن نايف الشحود (ص 10).
(2)
فتح الباري (6/ 306).
(3)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (2/ 402 - 403).