الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - الإيمان بالقدر طريق للخلاص من الشرك:
زعم المجوس بأن النور خالق الخير، وأن الظلمة خالقة الشر، كما زعمت القدرية بأن الله لم يخلق أفعال العباد لا الخير ولا الشر، وهؤلاء جميعاً أثبتوا خالقين مع الله عز وجل، وهذا شرك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " اعلم أن أهل البدع من القدرية الجهمية والمجبرة والقدرية النافية لا يحمدون الله ولا يشكرونه، كما أنهم لا يعبدونه، وأما أهل الإلحاد من المتفلسفة والباطنية فهم أبعد عن حمده وشكره، وذلك أن المجبرة حقيقة قولهم أنه ليس برحيم ولا مُنعم، بل ولا إله يستحق أن يعبد ويُحب، بل صدور الإحسان عنه كصدور الإساءة، وإنما هو يفعل بمحض مشيئة ترجح الشيء على مثله لا لمرجِّح، وكل الممكنات عندهم متماثلة، فلا فرق بين أن يريد رحمة الخلق ونفعهم والإحسان إليهم، أو يريد فسادهم وهلاكهم وإضرارهم، يقولون: هذا كله عندهم سواء"(1).
ومنهج أهل السنة العام في باب القدر، هو: الإيمان بأن جميع الكائنات واقعة تحت قدر الله، محكومة بقدره، ليس لها من الأمر شيء، فلا تملك لنفسها -فضلا عن غيرها- جلب نفع أو دفع ضر، وأن الأمور كلها بيد الله، فهو المعطي المانع، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، فإذا آمن الإنسان بذلك وأيقن به انبعث إلى إفراد الله بالعبادة وتجنب الشرك بأنواعه، وأخلص الدين لله رب العالمين، ولم يخش إلا الله (2).
كما أن من منهجهم الإيمان بالقدر خيره وشره، وذلك أن كل ما يكون فقد شاءه الله، وأن الطاعات والمعاصي كلها بقضاء الله وقدره، واعتبار الخير والشر بالنسبة للمقضي المقدر، وأما تقدير الله وقضاؤه فكله خيرٌ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((والشر ليس إليك)) (3)، وذلك أن القضاء والتقدير فعل الله، وأفعال الله عز وجل كلها خير وحكمة ليس فيها شر (4).
قال ابن القيم رحمه الله: " الشر ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المقضي
(1) جامع الرسائل (المجموعة الأولى)(1/ 103).
(2)
ينظر: الإيمان بالقضاء والقدر لمحمد الحمد (ص 13)، والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (3/ 159).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
(4)
ينظر: المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع (ص 811).
المقدر ويكون شراً بالنسبة إلى محل وخيراً بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه، كما هو شر له من وجه، بل هذا هو الغالب وهذا كالقصاص وإقامة الحدود وقتل الكفار، فإنه شر بالنسبة إليهم لا من كل وجه بل من وجه دون وجه، وخير بالنسبة إلى غيرهم لما فيه من مصلحة الزجر والنكال ودفع الناس بعضهم ببعض، وكذلك الآلام والأمراض إن كانت شروراً من وجه فهي خيرات من وجوه عديدة
…
فالخير والشر من جنس اللذة والألم والنفع والضرر وذلك في المقضي المقدر لا في نفس صفة الرب وفعله القائم به، فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له، وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه فعدل وخير وحكمة ومصلحة" (1).
لذا فإن الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح توحيد وخلاص من الشرك؛ لأن ارتباطه مباشرة بالإيمان بالله تعالى، فقد جاء في صفاته سبحانه صفة العلم، والإرادة، والقدرة، والخلق، وعلى هذه الأسس قامت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر (2).
كما عد العلماء الإيمان بالقضاء والقدر ثمرة من ثمرات الإيمان بالله، فالراضي بالقضاء والقدر راضٍ بالله، والساخط من القدر ساخط على الله، وهذه النكتة في عطف الفعل "تؤمن" لما عد النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان فقال:(الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) في حديث جبريل المشهور (3).
كما أن الإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختيار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه تعالى، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال؛ وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها (4).
(1) شفاء العليل (ص 443).
(2)
مراتب القدر الأربع هي صفات الله تعالى، لهذا السبب -والله أعلم- لم يُذكر ركن الإيمان بالقدر في كتاب الله تعالى مع بقية أركان الإيمان كما ورد في السنة، لأن الإيمان بالقدر هو إيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته.
(3)
ينظر: منهج الحافظ ابن رجل الحنبلي في العقيدة (ص 648).
(4)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 304)، القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذهب الناس فيه (83 - 85)، القضاء والقدر للمحمود (ص 83 - 85).