الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
ثانياً: ادعاء كفاية العقل في إدراك الحسن والقبح:
تكلف المبتدعة تقديس العقل، فردوا به نصوص الوحي، زاعمين أنهم ليسوا بحاجة للرسل؛ لأن عقولهم تفرق بين الحسن والقبيح، ومما يدلك على ضرورة بطلان هذا الادعاء، ما يلي (1):
1 -
أن العقل محدود في عمله:
العقل له مجال معين يعمل فيه، وهو عالم الماديات دون الغيبيات، فهو لا يزال يعمل في هذا الجانب ويكتشف الاكتشافات ويبتكرها وليست معلومة لديه دفعة واحدة، لذا فإن العقل ليس المصدر الوحيد للمعرفة، فمن المعلوم أن مصادر المعرفة متعددة (2)، وكما أن سائر الآلات في الإنسان محدودة ويصيبها الضعف، فهكذا العقل محدود ويصاب بالضعف.
2 -
عجز العقل عن إدراك عالم الغيب:
إن العقل لا يمكنه أن يدرك عالم الغيب (3) وما يحصل في المستقبل، وهل هناك مخلوقات أخرى كالجن والملائكة، ومعرفة حقيقة الروح في جسم الإنسان، وما الذي يحصل للإنسان في قبره، وماذا يكون للبشرية بعد الموت من الحساب والجزاء والجنة والنار، وكذلك معرفة الخالق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، كل ذلك وغيره كثير مما لا يمكن للعقل مهما كان ذكاؤه أن يدركه على حقيقته إدراكاً تاماً، فكان لابد من إرسال الرسل من عند الخالق سبحانه لتعريف الإنسان بذلك.
3 -
عجز العقل عن إدراك ألوهية الله وعبادته:
إن العقل عاجز عن الوصول إلى المعبود الحق ومعرفة أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله جل وعلا، ولذا تجد أن العقل يتخبط في هذا الجانب ويحتار، وهنا اختلفت العقول وتباينت معبوداتها قديماً وحديثاً.
(1) ينظر: الإسلام وحاجة البشرية إليه د. محمد يوسف موسى (ص 21)، الوحي المحمدي لرشيد رضا (ص 54)، رسالة خاتم النبيين د. ثامر غشيان (ص 22) وما بعدها.، الرسل والرسالات د. عمر الأشقر (ص 29).
(2)
منها ما يعرف بالسمع ومنها ما يعرف بالبصر ومنها ما يدرك بالذوق، ومنها ما يعرف بالعقل، ومنها ما يعرف بالوحي.
(3)
ضرورة الإيمان بالغيب: إن البشرية بحاجة ماسة وضرورية للإيمان بالغيب، إذ يتوقف على ذلك تحديد مصيرها في الآخرة وتنظيم حياتها في الدنيا، فلابد من معرفة الخالق سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وكذلك غاية خلقه للجن والإنس وما هو المصير بعد الموت
…
، كل ذلك من أجل أن يعرف الإنسان كيف يتعامل مع المخلوقات التي لا يراها وكذلك ليستعد للقاء الله عز وجل ووقوفه بين يديه في يوم القيامة، ويتحدد بذلك مصيره إلى جنة أو إلى نار.
ورغم ما وصلت إليه البشرية من التطور الهائل، ومع ذلك فلا يزال كثير من سكان الأرض يعبدون غير الله عز وجل، فمنهم من لا يزال يعبد التماثيل والأحجار ومنهم من يعبد الأبقار والشيطان، بل عَبَدَ بعض الناس فروج النساء وتخبطت البشرية في هذا الجانب.
4 -
تفاوت العقول واختلافها:
ومما يجعل العقول عاجزة عن هداية الخلق وإرشادهم أن العقول مختلفة ومتفاوتة ولكل عقل منها رأي في القضايا المطروحة عليه، فما هو العقل الذي نعتمد عليه في حسم الخلافات، وما هو المعيار في كون عقل فلان صواباً، وعقل فلان خطأ؟ إنه لا جواب لمثل هذه الأسئلة إلا ببعثة الرسل فهم الذين يرشدون البشر ويهدون العقول ويحكمون بالخطأ والصواب على معتقدات الناس وأفعالهم.
5 -
عجز العقل عن وضع منهج صحيح للحياة:
إن العقل يدرك الحسن والقبح في بعض الجوانب من حيث الجملة ولكنه عاجز عن إدراك جميع جوانب الحسن والقبح، كما أنه أيضاً عاجز عن إدراك الأحكام الجزئية ووضع التشريعات المناسبة الصحيحة لتلك الجزئيات.
وكذلك لا يستطيع العقل أن يدرك تفاصيل العبادة التي يريدها الله من خلقه ولأجلها خلقهم، مثل تفاصيل الصلاة والصيام والزكاة والذكر وغيره من أنواع العبادات. وهكذا في جانب التشريعات التي يحتاج إليها البشر في حياتهم مثل جانب السياسة والاقتصاد والاجتماع وأمور السلم والحرب والعلاقات بين الدول، كل ذلك مما يعجز العقل عن إدراكه.
والذي جلب لهم هذا الخلط والاضطراب: توهمهم أن هناك معارضة بين العقل والنقل، وذلك لِما اعتقدوه من أن العقل مقدس ومنزه عن الخطأ، فنفوا وعطلوا وأولوا ما أتت به الرسل من النقل، ولم يرفعوا به رأساً، بل ركنوا إلى قواعدهم العقلية وأصولهم الفلسفية، وجعلوها عمدة في ردّ ما ورد به الشرع بدعوى معارضته لها (1).
(1) ينظر: النفي في باب صفات الله عز وجل (ص 91 - 92)، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الكبير:"درء تعارض العقل والنقل" في إبطال هذه الدعوى.