الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن تيمية رحمه الله: " وكثير من هؤلاء - أي الذين يظنون أن العقل غير مستقل بإدراك التوحيد - يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل: كالمعاد وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم والكذب.
والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل بها؛ ويبين أنه بالعقل يعرف: المعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع" (1).
والذي جلب لهم هذا الخلط والاضطراب: توهمهم أن هناك معارضة بين العقل والنقل ولما كان العقل عندهم مقدساً منزهاً عن الخطأ، نفوا وعطلوا وأولوا ما دل عليه النقل من الإيمان باليوم الآخر، وركنوا إلى قواعدهم العقلية وأصولهم الفلسفية، وجعلوها عمدة في ردّ ما ورد به الشرع بدعوى معارضته لها (2).
لذلك نجد السلف قد قبلوها على ظاهرها، خلافاً لمن فتح باب الخوض فيها حتى أفضى به الأمر إلى إنكار ما جاء به الشرع، بحجّة الاعتماد على العقل.
-
خامساً: قياسهم الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة:
المخالفون خالفوا في الإيمان باليوم الآخر لما حكموا العقل، وأرادوا عالم الغيب كعالم الشهادة، لقياسهم الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة، فقاموا بتحكيم العقل فيما جاءت به النصوص في أن هذا يُعقل، وهذا لا يعقل، فيحملونه على المعقول.
يقول الغزالي رحمه الله: " إن هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت، أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل وما كانوا يشاهدونه، ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده؛ فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهمّ عليك، وإن كنت آمنت به وجوّزت أن يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا تشاهده الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت؟
…
وإن من ينكر بعض ذلك فهو لضيق حوصلته وجهله
(1) مجموع الفتاوى (16/ 252: 253).
(2)
ينظر: النفي في باب صفات الله عز وجل (ص 91 - 92)، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الكبير:"درء تعارض العقل والنقل" في إبطال هذه الدعوى.
باتساع قدرة الله سبحانه وعجائب تدبيره، فينكر من أفعال الله تعالى ما لم يأنس به ويألفه، وذلك جهل وقصور" (1)، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة (2).
كما أن القياس الفاسد لا ينضبط؛ لأن الأصل في باب اليوم الآخر أنه من الغيب، والغيب لا يقال فيه بالظن.
ولأجل مخالفة الضالين -من طوائف الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، وأهل الكلام، وبعض فقهاء السنة (3) - إما في كل المسألة أو في بعضها، صارت من مسائل العقائد التي يُعلن أهل السنة الإيمان بها وتقرير ما دلت عليه (4)، والأدلة التي دلت على هذا الأصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة (5).
لذا فإننا نجد أن السلف في باب اليوم الآخر لا يذكرون فيه إلا أقوالاً كأنها هي نفس الحروف المكتوبة في القرآن، بمعنى أن القول المأثور عن السلف يكان أن يكون نفس النص النبوي، أو جزءاً منه، أو جزءاً من النص القرآني، وهذا يدل على أن باب اليوم الآخر يؤخذ بطريقة المطابقة، وإن تضمنت هذه الطريقة التي أشير إليها عدم الإجابة على كثير من الأسئلة التي ترد؛ فما دام النص ليس صريحاً في هذا الخبر، فإن الأصل الوقف فيه؛ لأن باب اليوم الآخر الأصل فيه أنه غيب، والغيب لا يقال فيه بالظن؛ لأن هذا الظن ليس مما شرعه الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع في الغيب ظناً، وكل الغيبيات التي أوجب الله ورسوله على العباد أن يؤمنوا بها هي غيبيات قطعية بينة (6).
(1) إحياء علوم الدين (4/ 500 - 502).
(2)
ينظر: الروح (ص 24)، والإرشاد (ص 213).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 31).
(4)
نجد أن أصل إيراد مسألة عذاب القبر ونعيمه في العقائد؛ لأن طائفة من الجهمية والفلاسفة وأهل الكلام ينكرون عذاب القبر، وينكرون السؤال والفتنة، مستدلين بأن الميت جماد لا حياة فيه، فلا يتصور تعذيبه، بل هو محال، وذلك لعدم إيمانهم بدلالة السنة والحديث على ذلك، وتأولهم لما جاء في القرآن مما يدل على عذاب القبر.
كما أن الإيمان بالشفاعة يوم القيامة من عقيدة أهل السنة والجماعة، لأن الخوارج والمعتزلة أنكروها، فآمن أهل السنة بكل ما جاء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من إثبات الشفاعة بجميع أنواعها، كشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، وشفاعته لأهل الكبائر من أمته، وهكذا الأنبياء يشفعون، وكذلك الشهداء والصالحون والملائكة الكرام
…
وغير ذلك من مسائل العقائد التي يُعلن أهل السنة الإيمان بها.
ينظر: مقالات الإسلاميين (2/ 116)، عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني (ص 258)، وشرح النووي على مسلم (3/ 31 - 34)، والسنة لابن أبي عاصم (2/ 385)، ومجموع الفتاوى (3/ 147)، ومعارج القبول (2/ 886).
(5)
ينظر: الروح لاين القيم (ص 48)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 602) وما بعدها، شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ (2/ 204).
(6)
ينظر: شرح الواسطية، للشيخ يوسف الغفيص، دروس صوتية مفرغة على المكتبة الشاملة.