الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول ما جاء في البدع المتقابلة في الإيمان بالرسل
.
تمهيد:
أرسل الله الرسل لهداية الناس إلى سعادة الدارين، ولكن تباينت مواقف الأمم تجاه أنبيائهم ورسلهم ما بين مؤمن بهم متبع لهم، وبين غالٍ فيهم منزِّلهم فوق منازلهم التي أنزلهم الله إياها، فعبدوهم من دون الله، كاليهود الذين جعلوا عزيراً ابن الله، والنصارى الذين جعلوا عيسى ابن الله، وحذا حذوهم الفرق الضالة كالشيعة والصوفية وغيرهم، وقلما تجد فرقة إلا وتجد فيها هذه الصفة من عبادة الأنبياء والرسل، وخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يوجه له من الدعاء والاستعانة والاستغاثة أكبر دليل على ذلك.
وبين كافر بهم جافٍ لهم منكر للرسالات السماوية، كالملاحدة واليهود (1) وغيرهم، أو زاعمٍ بأن الرسل ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا البلاغ المبين، ولم يفصحوا فيما جاءوا به مما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته العلا، كالفلاسفة وأهل التخييل والتأويل والتجهيل، ومن مظاهر الجفاء عند أهل البدع تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض ما جاء به، أو بغضه أو بغض ما جاء به، أو المسرة بانخفاض دين الرسول عليه الصلاة والسلام، أو الكراهية لانتصار دين الرسول عليه الصلاة والسلام وسبه وشتمه عليه الصلاة والسلام، كما هو موجود عند المرجئة والجهمية (2)، كما أن البراهمة (3)؛
تطرفوا فأحالوا أن يصطفي الله رسولاً من عباده ويرسل إليهم رسولاً، وزعموا أن إرسالهم عبث؛ إما لعدم حاجة الناس إليهم اعتماداً على العقل في التمييز بين المصالح والمفاسد، واكتفاءً به في إدراك ما يحتاجه الناس من المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده؛ لعدم حاجته إلى أعمالهم إن كان خيراً، وعدم تضرره بها إن كانت
(1) اليهود أعظم الطوائف جفاءً للأنبياء والرسل وسبق ذكرهم في معرض الغلاة، لكنهم جمعوا بين الأمرين، إلا أن الصفة الغالبة عليهم هي الجفاء والإغراق في ذلك والقرآن دل على ذلك.
(2)
الذين يقولون: إن الإيمان هو تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به، والسب والشتم لا ينافي التصديق؛ لأن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه، فالساب لا يكون كافراً وهي شبهة أوهى من خيط العنكبوت لأنه لو كان مصدقاً بالرسول عليه الصلاة والسلام لصدق بأقواله وأفعاله التي تحرم إهانته عليه الصلاة والسلام.
(3)
البراهمة الذين يزعموا أن العقل يغني عن الوحي لا نحتاج إلى إيراد الحجج لإبطال قولهم، وكل ما نفعله أن نوجه الأنظار إلى ما قادتهم إليه عقولهم التي زعموا أنهم يستغنون بها عن الوحي، هذا زعيم من زعمائهم "غاندي" في القرن العشرين يقول مفاخراً:" عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً، لأني أبعد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع". ينظر أقواله هذه في: كتاب مقارنة الأديان (4/ 32) ..
شراً، إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم ولا يتضرر بمعصيتهم (1)، كما أننا نجد في العصر الحديث من جعل النبوة صفة لا تزيد على مرتبة العبقرية، كما عند بعض الكتّاب والأدباء والفلاسفة (2)، بل إن موقف الفرق عموماً من هذا الركن قد حصل فيه خلل من قريب أو بعيد (3)، ويمكن إجمال أسباب انحراف الفرق في الإيمان بالرسل، إلى سببين رئيسين هما:
1 -
الخلل في توحيد الربوبية، وعدم تعظيم الله عز وجل، ما أدى بقوم إلى صرف الربوبية للرسل، وبقوم آخرين إلى إنكار حكمة الله عز وجل من إرساله لرسله عليهم السلام.
2 -
الاشتباه الحاصل في معنى تجريد المتابعة للرسل (4)،
واعتمادهم على العقل (5) في ذلك، ولا ريب أنه نحى ببعضهم إلى الغلو فيما نحى بآخرين إلى الجفاء.
ومن أجل هذا فقد، انقسم الناس إلى طرفين متقابلين، طرف انتهج الغلو والإفراط والزيادة! ! وطرف سلك طريق التقصير والتفريط والنقصان! . وبيان ذلك في المطلبين الآتيين.
(1) الحكمة من إرسال الرسل، عبد الرزاق عفيفي (ص 15).
(2)
النبوة عند الشيخ محمد عبده غير النبوة المعروفة في الإسلام، إذ أنه يعرف النبي بأنه: "إنسان فطر على الحق علماً وعملاً، بحيث لا يعلم إلا حقاً ولا يعمل إلا حقاً على مقتضى الحكمة
…
". ينظر: موقف العقل لمصطفى صبري (1/ 29 - 30)، ومنهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص 675).
(3)
تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (1/ 343 - 345).
(4)
تجريد المتابعة يكون بمتابعة الرسل في العقائد والعبادات والأخلاق والمناهج، ومتابعتهم في كل صغيرة وكبيرة، فلا يتبعهم في بعض هديهم، ويخالفهم فيما سواه.
ينظر: تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم بين السلف والمخالفين، د. سيرين المان انجاي (1/ 30).
(5)
يمكن تشبيه العقل بدون وحي كالعين بدون نور، فكما أن العين لا تبصر إلا بوجود النور فكذلك العقل لا يمكن أن يعرف الحق من الباطل ويميز بين الهدى والضلال إلا إذا جاء الوحي.