الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال العجلوني (1): "عن الأوزاعي (2) أنه قال: ما من أمرٍ أمرَ الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيهما أصاب: الغلو أو التقصير. ولأبي يعلى (3) بسند جيد عن وهب بن منبه (4)، قال: إن لكل شيء طرفين ووسطاً، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء .. "(5).
حقيقة الوسطية في الشرع:
ويراد بالوسطية شرعاً: أن يكون المكلف غير واقع في التساهل ولا الغلو.
قال الراغب (6): التوسط: القصد المصون عن الإفراط والتفريط (7).
وفي الجملة فالاستعمال الشرعي للوسطية لا يخرج عن معناها اللغوي؛ إذ بينهما ارتباط وثيق.
والأخذ بالوسط معناه: الأخذ بما شرع الله من غير إفراط ولا تفريط، فورد تفسير الوسط في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} البقرة: 143، بالعدل الخيار؛ وهذا هو الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (8).
(1) هو إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي الجراحي العجلوني الدمشقي أبو الفداء محدث الشام في أيامه، ولد بعجلون سنة 1087 هـ، له عدة مؤلفات وتوفي بدمشق سنة 1162 هـ.
ينظر: الأعلام (1/ 235).
(2)
هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو الفقيه، ثقة جليل، مات سنة 157 هـ، قال أبو زرعة الدمشقي:"سألت أحمد عن أصحاب يحيى بن أبي كثير فقال: هشام -وذكر بعضهم- قلت له: الأوزاعي. قال: الأوزاعي إمام".
ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 107)، تهذيب التهذيب (11/ 270).
(3)
هو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون من أهل بغداد ارتفعت مكانته عند القادر والقائم العباسيين ولد سنة ثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 193 - 230)، تاريخ بغداد (2/ 256)، شذرات الذهب (3/ 306)، الأعلام للزركلي (6/ 331).
(4)
وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار اليماني، الصنعاني، الذماري، الأبناوي، الخراساني، أبو عبد الله، ثقة، رمى بالقدر ورجع عنه، توفي عام 110 هـ.
ينظر: الثقات لأبي حاتم (5/ 487)، تهذيب الكمال للمزي (31/ 140)، تقريب التهذيب (ص 585)، لسان الميزان (7/ 428).
(5)
كشف الخفاء (2/ 391).
(6)
هو: الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني أو الأصبهاني (أبو القاسم)، اختلف في سنة مولده وسنة وفاته على أقوال عدة أقربها بالنسبة لوفاته (502 هـ).
ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 120 - 121)، والأعلام للزركلي (2/ 255).
(7)
المفردات في غريب القرآن (ص 533).
(8)
ينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 131).
معيار (1) تحديد الوسطية:
المعيار الذي يحقق الوسطية هو الشرع (2)
وليس الهوى والذوق (3)؛ فالخروج عن الوسطية يكون بركوب سبيل الانحراف والتقصير، أو الغلو والإفراط، وهذا الانحراف تارة يكون يسيراً، وتارة يكون شديداً، وبين ذلك مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تعالى (4).
وقد قرر العلماء أن الحق واسطة (5) بين التفريط والإفراط، وهو معنى قول مطرف ابن عبدالله (6):"الحسنة بين السيئتين"(7).
(1) المعيار لغة: هو ما تخذ أساسا للمقارنة والتقدير. واصطلاحاً: هو نموذج متحقق أو متصور لما ينبغي أن يكون عليه الشيء.
ينظر: المعجم الوسيط د/ إبراهيم مدكور وآخرون (1/ 375) مادة "عَيَرَ".
(2)
نظراً لأن وسطية الإسلام شاملة لكل مناحي منهجنا الإسلامي (عقيدة، وشريعة، وأخلاقاً، ومعاملات) فإن الأطر المرجعية لها "المعايير" هي نصوص الكتاب والسنة، ويندرج تحتهما باقي الأدلة المعتبرة عند علماء الفقه وأصوله وهي: الإجماع، والقياس، والمصلحة المعتبرة، وقول الصحابي، والعرف
…
وغير ذلك.
ينظر: طرق معرفة الوسطية الشرعية، د. غازي العتيبي مجلة الأصول والنوازل (ص 43).
(3)
ومن المصطلحات التي كثر طرقها في وسائل الإعلام بجميع أنواعها من مرئي ومسموع ومقروء: مصطلح "الوسطية"، فهذا المصطلح أصبح ثوبا يقبل التغير عند كثيرين، إن شاؤوا وسعوه وإن شاؤوا ضيقوه، يلبسونه من شاؤوا متى شاؤوا كيف شاؤوا، ويصدر هؤلاء كلامهم ومقالاتهم بالآية التي نصت على ذكر الوسط؛ وهي قوله تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143].
ويزعمون أن الوسطية تستدعي قبول الآراء والاختلافات ولو كانت في أصول الدين، ولو كانت تصادم النصوص الصريحة؛ ففتحوا بذلك أبواب البدع والمحدثات، بل ويسمون من حذر من البدع ومنع من إفساح المجال لهم بالرجعية والتطرف والغلو.
ينظر: الوسطية بين الواقع والوهم للشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد السدحان، موقع الألوكة؛ والوسطية بين دلالات النصوص وأقوال العلماء، للشيخ أحمد بن حسن المعلم، موقع الألوكة.
(4)
ينظر: منهج الوسطية في التشريع الإسلامي وأثره في الوقاية من ظاهرة الغلو والتكفير، د. نور الدين بو حمزة (5898) المنشور في السجل العلمي لمؤتمر ظاهرة التكفير المجلد التاسع.
(5)
الوسطية ليست وسطاً بين رذيلتين مطلقاً؛ وإن كان في الغالب أنه يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، فلا يلزم لكل ما يعتبر وسطاً في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالصدق مثلا يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أي منهما وسطاً بين رذيلتين! .
ينظر: الوسطية في الإسلام (ص 29)، والفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية (ص 208).
(6)
هو الإمام الحجة أبو عبد الله مطرف بن عبد الله الحرشي العامري البصري، من ثقات التابعين، كان صاحب فضل وأدب، اشتهر بالورع والزهد، توفي سنة 86 هـ.
ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 187).
(7)
ينظر: عيون الأخبار لابن قتيبة (1/ 138)، وغريب الحديث لابن سلام (2/ 28)، ومجموعة رسائل ابن رجب الحنبلي، جمع: أبو عادل العزازي (ص 133).
وبه يُعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى (1).
فهذه الأمة قد أراد لها الله سبحانه وتعالى أن تكون وسطاً، تقف موقف الشاهد العدل بين طرفي الظلم، والحق بين طرفي الباطل، والاعتدال بين طرفي الغلو (2).
إذاً فالوسطية (3) هي ما سبقت كلا الطرفين إلى خير ما فيهما، وتركت ما سوى ذلك، فجمعت الخيرين، ونفت الشرين؛ وبالتالي لم يبق معنى الوسطية مجرد التجاور بين الشيئين فقط؛ بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، التي تقف على معنى (الخيرية والعدل)(4)، والسعي في تحصيلها والاستفادة منها، فيجتمع عندها أسمى الصفات، وهو معنى يتسع ليشمل كل خصلة محمودة (5).
(1) ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (1/ 494).
(2)
لم يرد في التوراة ولا في الإنجيل حديث عن والوسطية بالمفهوم الذي يقدمه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} ، وهذا يؤكد أن الوسطية مفهوم إسلامي يتعلق بالأمة الإسلامية وحدها دون غيرها من الأمم، وهي تسيطر على منهج التفكير الإسلامي كله حيث تشمل العقائد والأخلاق والتشريع، ومن هنا وازن العلماء في كل ذلك بين العقل والنقل.
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 482)، والوسطية العربية، مذاهب وتطبيق، د. عبد الحميد إبراهيم (المقدمة).
(3)
لا يلزم أن كل ما يقع وسطاً في الاصطلاح أن يكون صحيحا ممدوحاً، فإن تحديد الفضيلة والرذيلة هو إلى الله عز وجل، وذلك جار على مقتضى العدل، وليس الأمر متروكاً للبشر، فلا تكون الوسطية ممدوحةً إلا بالجعل الإلهي {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} ، كذلك تحديد الوسط أمر نسبي يختلق باختلاف الأشخاص ولذلك قال ابن سيناء:" ليس وسط الشيء عينه، بل الوسط بالنسبة إلينا".
ينظر: الفضائل الأخلاقية، د. أحمد عبد الرحمن إبراهيم (ص 272).
(4)
والوسط بحسب اجتهاد البشر ليس بالضرورة أن يكون حقاً أو خيراً، فقد يكون الوسط مذموماً منهياً عنه؛ بل قد يرى الناظر -في بادي الرأي- قولاً أو موقفاً وسطاً بين باطلين، ومع ذلك لا يكون خيراً؛ بل قد يكون باطلاً مثلهما، ومثاله: أن المعتزلة قد توسطوا - بحسب اجتهادهم- بين طرفين، في باب الأسماء؛ بين الخوارج القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة، وبين المرجئة القائلين بأن أهل الكبائر كاملوا الإيمان، فذهب المعتزلة إلى مرتبة بين المرتبتين فقالت: إن مرتكب الكبيرة فاسق خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر، فوسطية هذا المذهب هنا، ليست هي الحق في هذا الباب؛ لأنها تخالف القول الوسط نفسه الذي بمعنى (الخيرية والعدل) الذي دلت عليه النصوص والتي لا تدل دائما إلا على الوسط قولاً واعتقاداً وتوجهاً.
وكذلك وسط المنافقين الذين سلكوا منهج التذبذب بين الإيمان والكفر، ومن أجل هذا استحقوا الدرك الأسفل من النار.
فأكبر خطأ الباحثين عن الوسطية بحثهم عنها بين تيارات الطوائف وليس بين الأدلة.
ينظر: الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية، د. فهد بن سعد الجهني (ص 208)، والوسط ومظاهر الوسطية في القرآن الكريم، د. الحسن بن خلوي الموكلي (ص 95).
(5)
ينظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/ 184)، والوسطية في الإسلام تعريف وتطبيق د. زيد الزيد (ص 19 - 21).
بهذا الاستعراض الموجز لهذه المصطلح يتضح أنه لا يصح إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتا الخيرية (1) ومجانبة الإفراط والتفريط. والله تعالى أعلم.
(1) الوسطية تعني الخيرية، سواء أكانت خير الخيرين أو خيرا بين شرين، أو خيرا بين أمرين متفاوتين.
ينظر: الوسطية في القرآن للصلابي (ص 64).