الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعلم الأول: الخلل في منهج التلقي والاستدلال:
منهج الاستدلال عند أصحاب البدع المتقابلة، يعتمد على مصادر مغايرة لمصادر الشريعة الإسلامية كالعقول المجردة الفاسدة والمنطق والفلسفات الكلامية العقيمة، فيؤدي ذلك إلى تحريف الأدلة وتأويلها وإلى الاستدلال بالمتشابه من الأدلة دون ردها إلى المحكم، مع قياس عالم الغيب على عالم الشهادة، والتعلق بالآراء المجملة، فيخالفون بذلك الرسل -عليهم الصلاة والسلام- (1)،
ومن ثم لا يتلقون العلم الشرعي عن العلماء الربانيين؛ لذلك أصبح العلم عندهم ليس مبنيا على الأصول الشرعية (2)، وإلا فكيف يضربون صفحاً عن الآيات المحكمات، ويعتمدون على النصوص المتشابهات (3)، ولا يردونها إلى المحكم، فالنص يدور في فلك معين وهم في فلك آخر مغاير له، وكذا ما يقع من المدرسة العقلية الحديثة (4) من استقلالية بالأخذ عن الكتاب والسنة بدون ضابط حتى ظهرت العبارة المشهورة
(1) قال ابن القيم رحمه الله: "ومن الأدب معه - أي النبي صلى الله عليه وسلم ألَاّ يستشكل قوله، بل تُستشكَل الآراء لقوله، ولا يُعارَض نصه بقياس، بل تُهدَر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يُحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم! هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد. فكان هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، بل هو عين الجرأة".
ينظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 368).
(2)
بل على العقل عند المعتزلة، أما عند الصوفية فعلى الذوق واتباع الأشخاص. وغير ذلك.
(3)
قال الآجُرّي: ومما يتَّبع الحرورية من المتشابه، قول الله عز وجل:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فإذا
رأوا الإمام يحكم بغير الحق، قالوا قد كفر، ومن كفر عدل بربه، فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون فيفعلون
ما رأيت، لأنهم يتأولون هذه الآية.
ينظر: الشريعة للآجري (ص 28).
(4)
هي اتجاه فكري إسلامي -في الجملة- يسعى إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي المعاصر، ويؤكد التلاقي بين العلم والدين، متبنياً منهجاً عقلانياً، يعلى من مكانة العقل في مقابل النص الشرعي، ويؤول النص إن أمكنه، أو يرده إن لم يمكنه ذلك.
ينظر: منهج المدرسة العقلية في التفسير، لفهد الرومي (ص 69)، موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من النص الشرعي، لسعد بن بجاد العتيبي (ص 48).
"نحن رجال وهم رجال"(1) دون الاعتداد بأهل العلم والبصيرة من علمائهم (2).
فخلَلُهم يبدأ من الاستقلالية في استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط محدد ومنهج حق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومستند السلف الصالح واللغة العربية، وفي الوقوف على الأدلة ودلالتها وأقوال أهل الفقه والبصيرة فيها، وكل ذلك يؤدي إلى الزيغ والهلاك، ولذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من تلك الطريقة (3)، كما كان بعض العلماء يتعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي (4)؛ لأن أهل الفلسفة حصروا منهجهم العلمي بالمنطق والقياس، كما قابلتهم طائفة في هذا الباب، فرأوا أن مصدر المعرفة ليست في شيء من ذلك، وجعلوا مصدرها ما عندهم من خيالات صوفية، وفيوضات شيطانية، وغفل هؤلاء وهؤلاء عن الطريقة الشرعية.
والواقع والملاحظ أن التمسك بنصوص الكتاب والسنة، وفهمها فهماً صحيحاً، يعتبر عند هؤلاء -المتهاونين بأحكام الشريعة الغافلين عنها أو المغالين في تقديس العقل (5) المقدمين له- غلواً وتطرفاً، أو جموداً وانغلاقاً، وذلك بالنظر إلى ما هم عليه من تفريط ظاهر،
(1) كلمة حق أريد بها باطل. هؤلاء هم الداعون إلى الأخذ مباشرة من الكتاب والسنة وهم أبعد الناس عن فهمهما، وهم المنادون بالعودة إلى القرون المفضلة وهم أضل الناس عن سلوك جادتها! !
(2)
إن أسلوب الطعن في العلماء قرة عين لأعداء الإسلام؛ لأنه ينشئ جيلاً بلا قادة، وهل رأينا جيلاً بلا قادة قد أفلح؟ لذا فقد حذر العلماء من خطورة الطعن في العلماء العاملين على المسلمين؛ قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/ 220):"ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالحة وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين"؛ فمن يبقى لأمة الإسلام إذا طُعن في علمائهم؟ ، إن أسوأ ما في الأمم السابقة علماؤهم وأحبارهم، فقد كثر فيهم الضالون المضلون، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34]. وأفضل ما في الإسلام علماؤه الربانيون العاملون، قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءها خيارها، ووضح ذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 284) فقال:"وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم، فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم".
(3)
ينظر: التحذير من الغلو في ضوء القرآن والسنة، أ. د. بدر بن ناصر البدر، مؤتمر ظاهرة التكفير (5/ 2573).
(4)
ينظر: الرد على المنطقيين (ص 482) وما بعدها، ونقض المنطق (ص 35)، ودرء التعارض (3/ 303).
(5)
وهذا الاعتماد على العقل وتقديسه أدى بهم إلى عكس النتيجة التي كانوا يرمون إليها، فهم يريدون الوصول إلى اليقين القاطع من خلال أدلتهم العقلية، فإذا بهم يجدون أنفسهم في قمة الشك والحيرة، وهذا بشهادة علمائهم وكبرائهم.
فليت السائرين على منهجهم، المقتفين آثارهم، يتعظون بهم، وما وصلوا إليه من الانحراف والضياع، ويعيدون النظر فيما عندهم، فينقادون لشرع الله وهديه.
ينظر: التيار العقلي لدى المعتزلة، د. سهل بن رفاع العتيبي (ص 374) ضمن مجلة كلية دار العلوم العدد (40).