الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
ثانياً: التزامهم لوازم باطلة بنيت على قواعد خاطئة:
منهج المعطلة في الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة النبوية قائم على ردّ النصوص الصحيحة الثابتة، بالطعن في دلالتها أو في ثبوتها (1)،
فما كان من القرآن الكريم أو السنة المتواترة، قالوا: إنه ظني الدلالة، وما كان من السنة الصحيحة قالوا إنه أخبار آحاد، ليس قطعي الثبوت، أما عقلياتهم وأوهامهم، وقواعدهم التي وضعوها فإنها قطعية الدلالة، ولا يقوى القرآن والسنة على معارضتها فوجب تقديمها عليهما -كما زعموا-، وإن وافقت معقولاتهم ذكروها استئناساً بها لا اعتماداً، ولو كانت ضعيفة أو موضوعة باطلة (2).
ولما اعتمد أهل البدع على كليات عقلية وقواعد منطقية، وقدموها على نصوص الشرع، لزمتهم لوازم باطلة منها:
1 -
الاحتكام إلى العقول، وجعلها مقياساً لإثبات صفات الله عز وجل.
2 -
ردهم لنصوص الشرع؛ لأن من منهج المعطلة ادعاءهم أن نصوص الصفات ونحوها من المتشابه، والمتشابه على زعمهم يجب تأويله، وغرضهم الحقيقي رد النصوص التي لا توافق ما أصلوه من قواعد عقلية، أو تعطيل معانيها، إذا لم يمكنهم ردها بالكلية (3).
3 -
لما نفى الفلاسفة عموم علم الله تعالى بخلقه وقالوا: إنه يعلم الكليات فحسب، ولا يعلم الجزئيات، لما ظنوا ذلك ارتكبوا محارمه وترك التوكل عليه واستحلوا مخاصمته ومدافعة أمره ونهيه بأهوائهم ومقالاتهم الباطلة .... ومن عجيب أقوال
(1) قال ابن القيم: " وجاء أفضل متأخريهم فنصب على حصون الوحي أربعة مجانيق.
الأول: أنها أدلة لفظية لا تفيد اليقين
الثاني: أنها مجازات واستعارات لا حقيقة لها
الثالث: أن العقل عارضها فيجب تقديمه عليها
الرابع: أنها أخبار آحاد وهذه المسائل علمية فلا يجوز أن يحتج فيها بالأخبار". الصواعق المرسلة (3/ 1039).
(2)
ينظر: النفي في باب صفات الله عز وجل، أرزقي سعيداني (ص 88).
(3)
ينظر: الصواعق المرسلة (3/ 990 - 991)، والنفي في باب صفات الله عز وجل (ص 90).
الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنه قال: لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف (1)، ولا من القدرية النفاة، القائلين: بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات (2).
4 -
أنه إذا انتفت صفة الكمال عن الله لزم أن يكون متصفاً بصفات النقص، فإن كل موجود في الخارج لابد له من صفة فإذا انتفت عنه صفات الكمال لزم أن يكون متصفاً بصفات النقص، وبهذا ينعكس الأمر على هؤلاء النفاة ويقعون في شر مما فروا منه (3).
5 -
القول بأن إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم لتعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع، وقد انطلقوا من شبهة التركيب (4)، وعطلوا الله عز وجل عن صفاته جميعاً.
6 -
أثبتوا لله صفة واحدة وهي القِدم لما كانت أخص وصف لله عز وجل، لا يشاركه فيها غيره، من أجل هذا كان العالم بكل ما فيه من أجسام محدثاً (5)، وذلك أنهم أقاموا دليلهم لإثبات وجود الله عز وجل على حجة الأعراض وحدوث الأجسام، فقالوا بحدوث الأجسام، لملازمتها للأعراض، أو بعضها، كالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق؛ فهي إذاً حادثة، والله عز وجل ليس بجسم -وقد نقل غير واحد إجماعهم على ذلك- إذاً فهو ليس بحادث، وجوده عز وجل قديم (6).
(1) وتفسير هذه الجملة بما حاصله: أنه كيف يتوكل الفيلسوف على الله وهو يظن أنه لا يسمعه ولا يبصره ولا يعلم جزئيات حياته فكيف يعتمد على مثل هذا الرب! ! .
(2)
ينظر: مدارج السالكين (2/ 123)، طريق الهجرتين (ص 423).
(3)
ينظر: فتح رب البرية بتلخيص الحموية، شرح ابن عثيمين (ص 88).
(4)
هذه الشبهة فلسفية في أصلها، تلقفها المعتزلة عنهم، لكن المعتزلة لم يشاركوا الفلاسفة إلا في القول بنفي نوع واحد من أنواع التراكيب الخمسة التي قال بها الفلاسفة، فقد ذهب الفلاسفة إلى أن التركيب خمسة أنواع:
تركيب الموجود من الوجود والماهية 2 - تركيب الحقيقة من الجنس والفصل. 3 - تركيب الموجود من الذات والصفات. 4 - تركيب الجسم من الجواهر المنفردة. 5 - تركيب الجسم من المادة والصورة.
ينظر: الأصول التي بني عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات، أ. د. عبد القادر عطا صوفي (3/ 163 - 201).
(5)
ينظر: شرح الأصول الخمسة (ص 130 - 131).
(6)
ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 235)، منهاج السنة (3/ 361)، ودرء التعارض (1/ 305).
وهم يحاولون إيهام الناس أنهم إنما أرادوا من تعطيل الله عز وجل عن الاتصاف بصفاته العلا، تنزيهه عز وجل عن أن يكون جسماً، أو أن تحل به الحوادث (1).
7 -
كما أنهم زعموا أنه إذا أُثبِت لله عز وجل الأسماء، لزم من ذلك إثبات الصفات، وهي المعاني التي اشتقت منها هذه الأسماء، وهو محال؛ لأن مذهبهم قائم على نفي جميع الصفات الثبوتية، وأن الله عز وجل لا يوصف إلا بصفة سلبية أو إضافية أو مركبة منهما (2).
8 -
دعواهم أن وجود الله عز وجل هو وجودٌ مطلق لا بشرط (3)، ومرادهم من الشرط هو التقيد باسم أو صفة تجعله متميزاً عن غيره، وإنما حقيقة وجوده هو وجود الأشياء كلها، ووجودها عين وجوده، ما ثمة فرق إلا بالإطلاق والتقييد؛ فيقال: هذا خالق وهذا مخلوق وهذا سماء وهذه أرض، وحقيقة وجود الكل واحدة، فأسماؤه سبحانه وتعالى تعطى لك أحد؛ لأن وجوده هو عين وجودها (4).
9 -
إن الانحراف في مصدر التلقي ومنهج الاستدلال بالنصوص من الكتاب والسنة نتج عنه انحراف عند المعطلة في مفهوم التوحيد الذي جاءت به الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، من إفراد الله عز وجل بالعبادة، إلى الخوض في الجواهر والأعراض وتقرير وجود الله عز وجل بالأدلة العقلية المعقدة التي لا يفهمها معظم الخواص فضلاً عن العوام، على ما بينهم من اختلاف في تقرير مقدمات الأدلة التي يستدلون بها، وتعطيل الله عز وجل عن كماله المقدس بنفي أسمائه الحسنى وصفاته العلا.
10 -
تعطيل الله عز وجل عن صفاته العلا وأسمائه الحسنى، حتى أدى بهم هذا التفريط، إلى سوء الظن بالله عز وجل، وهو من أكبر الذنوب.
(1) ينظر: درء التعارض (2/ 11 - 12).
(2)
ينظر: جهود شيخ الإسلام في باب أسماء الله الحسنى (ص 810)، وينظر: مجموع الفتاوى (6/ 35)، والتدمرية (12 - 16).
(3)
وهذا قول ملاحدة الصوفية، حيث جعلوا الله هو الوجود من حيث هو هو، مع قطع النظر عن كونه واجباً وممكناً، وواحداً وكثيراً.
ينظر: درء التعارض (1/ 290).
(4)
ينظر: الصفدية (1/ 116 - 117)، مجموع الفتاوى (2/ 26)، (2/ 38).
11 -
القول بفناء الجنة والنار؛ لأنهم ظنوا أن كل ما تقارنه الحوادث فهو محدث، فمنعوا التسلسل في الماضي والمستقبل حتى لا تتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية (1).
12 -
الإلحاد والتشكيك في وجود الرب، قال ابن القيم رحمه الله:" فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تُحب ووجهه لا يرى، ولا يلتذ بالنظر إليه ولا تشتاق القلوب إليه فهم في الحقيقة منكرون الإلهية"(2).
13 -
أن الجهل بالله سبحانه وتعالى والإلحاد في أسمائه وصفاته أصل الكفر والشرك والتعطيل، كما أن الغفلة عن المعرفة بهذا الباب العظيم سبب رئيس في ضعف محبة الله والخوف منه ورجائه في قلوب العباد ومن ثم بعدهم عن سمت العبودية وما يتبع هذا من مظاهر السلوك غير السوي.
14 -
أن الكتاب والسنة صرحا بالكفر والدعوة إليه؛ لأنهما مملوءان من إثبات صفات الله التي زعم هؤلاء النفاة أن إثباتها تشبيه وكفر.
15 -
أن الكتاب والسنة لم يبينا الحق؛ لأن الحق عند هؤلاء هو نفي الصفات، وليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على نفي صفات الكمال عن الله لا نصاً ولا ظاهراً.
16 -
أن السابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان كانوا قائلين بالباطل وكاتمين للحق، أو جاهلين به، فإنه قد تواتر النقل عنهم بإثبات صفات الكمال لله الذي زعم هؤلاء أنه باطل، ولم يتكلموا مرة واحدة بنفي الصفات الذي زعم هؤلاء أنه الحق وهذا اللازم ممتنع على خير القرون وأفضل الأمة.
والذي جلب لهم هذا الخلط والاضطراب: توهمهم أن هناك معارضة بين العقل والنقل ولما كان العقل عندهم مقدساً منزهاً عن الخطأ؛ نفوا وعطلوا وأولوا ما دل عليه النقل
(1) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 304 - 305)، درء التعارض (1/ 39 - 40).
(2)
مدارج السالكين (3/ 429).
من أسماء الله تعالى وصفاته، وركنوا إلى قواعدهم العقلية وأصولهم الفلسفية، وجعلوها عمدة في ردّ ما ورد به الشرع بدعوى معارضته لها (1).
وهكذا نلحظ أن كثيراً من انحراف هؤلاء، إنما هو نتيجة التزامهم بما اعتمدوه من كليات عقلية وقواعد منطقية، أدت بهم إلى التفريط في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، والحقيقة أنهم إنما توهموا هذه اللوازم لمَّا فسدت ألسنتهم وعقولهم، فوقعوا في الفرقة والضلال، والشك والريبة والوبال، وصاروا كالذين وصفهم الله -بعد هذه الآية أيضاً_ بقوله:{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} الشورى: 14، فنعوذ بالله من الخذلان (2).
- ثالثاً: القياس الفاسد (3) في العقليات، والتأويل الفاسد في السمعيات:
القياس الفاسد لا ينضبط كما أن التأويل الفاسد ليس له قانون مستقيم. وذلك أن كلا منهما غير مرتكز على نقل صحيح أو عقل صريح. والتأويل الخطأ يكون في النصوص المتشابهة؟ وذلك كألفاظ نصوص صفات الله وألفاظ نصوص صفات المخلوقين قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة: 54، وقال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} طه: 5، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} المؤمنون: 28، فتأولت المبتدعة مدلول نصوص صفات الله لما بين النصوص من التشابه.
والقياس الخطأ يكون في المعاني المتشابهة حيث أن كلا من المقيس والمقيس عليه له نصيب من المعنى الكلي المشترك (4)، فـ"ما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في
(1) ينظر: النفي في باب صفات الله عز وجل (ص 91 - 92)، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الكبير:"درء تعارض العقل والنقل" في إبطال هذه الدعوى.
(2)
ينظر: قلب الأدلة على الطوائف المضلة في توحيد الربوبية والأسماء والصفات (ص 787 - 790).
(3)
وهو القياس على غير أصل، فلا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وهو عمدة كل مبتدع؛ لأن العقول تستحسن ما لا يستحسن شرعاً.
ينظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 341)(2/ 17)(3/ 241).
(4)
التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية، لفالح الدوسري (1/ 217).
الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة" (1).
ووجه خطئهم من جهة التأويل تلاعبهم بالنصوص، وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال، وليس لهم على ذلك حجة من كتاب ولا سنة، بل العمدة عندهم نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان.
ووجه خطئهم من جهة القياس (2) أنهم أتوا بألفاظ مجملة ليست في الكتاب ولا في السنة مثل متحيز ومحدود، وجسم ومركب، ونحو ذلك وجعلوا منها مقدمات مسلما بها عندهم ومدلولا عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض؟ أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل (3).
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله خطر قياس الخالق سبحانه على المخلوق في الشفاعة وغيرها قال: "وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والوليّ"(4). وإنما يستجيز القول بالباطل والقياس الفاسد من أعماه التقليد لأهل البدع وأصمه، قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} الحج: 46.
من أجل هذا بنى الدهريون والمشركون ومعطلة الصفات وسائر أهل الضلال، مذاهبهم على القياس الفاسد (5)، فضلوا عن سواء السبيل، وما أنكروا ما أنكروه؛ إلا لجهلهم به، وكونه لا تدركه عقولهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالغيب.
(1) التدمرية (ص 107).
(2)
إلا أنه يستعمل في حق الله سبحانه وتعالى قياس الأولى، وهو المثل الأعلى، الذي وصف الله به نفسه كما في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} النحل: 60، وحقيقته: أن كل كمال ثبت وليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالله أولى به، لأن معطي الكمال أولى به مع التفاوت بين تلك الكمالات. ينظر: الرد على المنطقيين (ص 154)، شرح الطحاوية (1/ 87)، الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، لمحمد أمان الجامي (ص 117).
(3)
التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية، لفالح الدوسري (1/ 217).
(4)
إغاثة اللهفان (1/ 221).
(5)
"فما أنكرت الجهمية صفات الرب وأفعاله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وكلامه وتكليمه لعباده ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد، وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد، وما ضلت الرافضة وعادوا خيار الخلق وكفروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسبوهم إلا بالقياس الفاسد، وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام وانشقاق السماوات وطي الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد، وما فسد ما فسد من أمر العالم وخرب ما خرب منه إلا بالقياس الفاسد، وأول ذنب عصي الله به القياس الفاسد، وهو الذي جر على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جر، فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد، وهذه الحكمة لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر". إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 7).
فمبنى التفكير على قياس الغائب عندهم، هو أن يقاس على الشاهد، وإيجاد العلاقة بين النظير ونظيره، والله عز وجل ليس له ند ولا مثيل ولا مسام ولا نظير حتى يقاس عليه، أو توجد بينه وبينه علاقة، تؤدي إلى إدراك كنهه وحقيقته، وهذا لا يقدح في الإيمان بمعاني ما أخبرت به النصوص الشرعية في حق الله عز وجل (1).
والحقيقة أن الله عز وجل ليس له شبيه ولا نظير، فالتفكير الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد، وبالذكر، وبما أخبر به عن نفسه، يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة؛ لا تنال بمجرد التفكير والتقدير؛ أعني من العلم به نفسه؛ فإنه الذي لا تفكير فيه (2).
وهذا " القياس هو الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)} الشعراء: 97، {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} الشعراء: 98، وذم الله أهله بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} الأنعام: 1، أي: يقيسونه على غيره ويسوون بينه وبين غيره في الإلهية والعبودية، وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد"(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في ذكر سبب ضلال أهل البدع في باب الأسماء والصفات:" هؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي، والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح"(4).
وبالجملة فإن القياس الفاسد أصل كل شر، وهذا باب واسع.
(1) ينظر: الفتوى الحموية (ص 304 - 308، 543 - 547)، ومجموع الفتاوى (16/ 413)، بيان تلبيس الجهمية (3/ 750).
(2)
نقد المنطق (ص 40).
(3)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 7).
(4)
مجموع الفتاوى (5/ 209)، وينظر: درء تعارض العقل والنقل: (8/ 132).