الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المعنى الإجمالي للآيات الرادة على البدع المتقابلة في توحيد الأسماء والصفات
.
أختم هذا الفصل بذكرٍ إجمالي للآيات الرادة على الانحراف العقدي في توحيد الأسماء والصفات؛ والآيات التالية سيقت على سبيل المثال لا الحصر (1):
1 -
في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} الفاتحة: 2، رد على الجهمية القدرية؛ لأن في قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} إثبات الحمد الكامل له عز وجل، وهذا يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه، من صفات كماله، ونعوت جلاله، إذ من عُدِم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق؛ وقوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} فيه إثبات صفة الربوبية وهي تستلزم جميع صفات الفعل، كما أن في قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} إثباتٌ لصفة الإلهية التي تستلزم جميع أوصاف الكمال: ذاتاً وأفعالاً. كما ردت هذه الآية على الممثلة الذين يصفون الرب عز وجل بصفات النقص التي يتصف بها المخلوق، فقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيه إثبات عموم حمده التام سبحانه الذي يقتضى ثبوت كل ما يحمد عليه، من صفات كماله، ونعوت جلاله، ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه، وأخبر أن من فعل ذلك فإنه ما قدره حق قدره عز وجل، بل نسبه إلى ما لا يليق به، ويأباه حمده ومجده (2).
2 -
قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} الإخلاص: 4، جاءت سورة الإخلاص للرد على المعطلين ونفاة الأسماء والصفات، بإثبات الذات الإلهية، وما لها من الأسماء والصفات. قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} الإخلاص: 1، فيها التوحيد القولي العملي، الذي تدل عليه الأسماء والصفات؛
…
وفيها إثبات الذات، وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الربِّ الخالقِ، الأحد الصمد، عن المعطلين له بالحقيقة، نفاة الأسماء والصفات، المضاهين لفرعون وأمثاله، ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود، وإن
(1) وسبب عدم استقصاء جميع الآيات، أن كتاب الله مليء فلا تكاد تخلو آيةٌ من آياته من صفة لله -سبحانه - أو اسم من أسمائِه الحسنى؛ وما ذلك إلا "لأنَّ القرآن المجيد عُمْدته ومقصوده الإخْبار عن صفات الرَّبِّ - سبحانه - وأسمائه وأفعاله وأنواع حمدِه والثَّناء عليه، والإنباء عن عظمتِه وعزَّته وحكمتِه، وأنواع صنعه والتقدُّم إلى عباده بأمرِه ونَهْيه على ألسِنة رسله". طريق الهجرتين (ص 233).
(2)
ينظر: تهذيب مدارج السالكين (1/ 82 - 84).
كان في الباطن يقرّ به" (1). كما أن هذه السورة أيضاً قد اجتمع فيها النفي والإثبات، للرد على بدعة التفريط، ممن أثبت لله إثباتاً مجملاً أو نفى عن الله نفياً منفصلاً، والرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا لله صفات الكمال على وجه التفصيل ونفوا عنه صفات النقص على وجه الإجمال، على الضد من أهل البدع، لذلك كانت سورة الإخلاص دليلاً واضحاً على ذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله: " والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصّل، ونفي مجمل؛ فأثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات، ومن خالقهم مِن المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية؛ فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، يقولون: ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا، فإذا أرادوا إثباته قالوا: وجود مطلق بشرط النفي، أو بشرط الإطلاق" (2).
والله عز وجل لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الأصل العام الذي تنطلق منه جميع الأصول والقواعد في باب الأسماء والصفات، لذلك دل قوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} ، على بطلان مذهب المشبهة الممثلة، فإثبات الكمال يلزم منه نفي ما يناقضه من وصف الله بخلقه الناقص.
3 -
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الأعراف: 180، في هذه الآية رد على طائفتين ضلتا في باب الأسماء والصفات، ففي قوله:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، رد على الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذي نفوا عن الله أسماءه، وعطلوها عن معانيها وجعلوها أعلاماً محضة، وفي قوله:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، ردٌ على الممثلة الذين نسبوها لغير الله، وألحدوا في أسماء الله بتحريفها (3)؛ فأثبت الله عز وجل لنفسه الأسماء الحسنى، وذم كل من حاد بها عن معناها. فالقسم الأول سلبوها عن الله ما سمى به نفسه والقسم الثاني صرفوها لغير الله.
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (2/ 862 - 863)، وينظر: مجموع الفتاوى (8/ 459 - 460)، قاعدة في الاسم والمسمى، ضمن مجموع الفتاوى (6/ 209)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 367).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (2/ 862 - 863)، وينظر: مجموع الفتاوى (8/ 459 - 460)، قاعدة في الاسم والمسمى، ضمن مجموع الفتاوى (6/ 209)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 367).
(3)
فالمشركون سموا العزى من العزيز، واللات من الله أو الإله، ومناة من المنان كما ورد في بعض الروايات، وهذا كله من الإلحاد.
4 -
قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} الأنعام: 14، في هذه الآية رد على المعطلة في قوله تعالى:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مُبْتَدِعَهُمَا وَمُبْتَدِئَهُمَا وَخَالِقَهُمَا، فدل هذا على إثبات صفاته عز وجل. ورد هذه الآية كذلك على المشبهة بقوله:{يطعم ولا يطعم} لتنفي عن الله عز وجل مشابهته لمخلوقاته، كما أن في قوله تعالى:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} ، رد على الذين أشركوا في صفات الله غيره.
5 -
قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} الأحزاب: 18، فيها إثبات لصفة العلم لله عز وجل وهذا رد على من أنكر صفات الله من الجهمية والفلاسفة وغيرهم، و {قَدْ يَعْلَمُ} أتت منكرة للدلالة على إحاطة الله بالعلم السابق واللاحق والآني، ليكون في هذا رد على غلاة المعتزلة ممن أنكر جزءاً من العلم وهو علم الله المستقبلي، أو علم الله بالجزئيات، فدلت هذه الآية على أن الله يعلم كل شيء بعلمه الأزلي. كما أن فيها رداً على المشبهة الذين مثلوا الله بخلقه، بأن وصف المخلوق بصفات النقص والعيب {الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} للدلالة على أنه عز وجل منزه عن هذا النقص.
6 -
قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} مريم: 65، في هذه الآية رد على الملاحدة والفلاسفة وكل من عطل الله عز وجل عما يستحقه من صفات الكمال وأسماء الجلال، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بعبادته (1) فقال:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ؛ لأن أصل عبادته عز وجل: معرفته بما وصف به نفسه في كتابه وما وصفه به رسله صلى الله عليه وسلم (2)، كما أن فيها رداً على المشبهة فقد أنكر الله تعالى التشبيه والتمثيل، في قوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} .
(1) لأن من عرف الله بأسمائه وصفاته حق المعرفة، تجلى في سلوكه وتعاملاته: الانصياع والخضوع لصاحب تلك الأسماء الكاملة والصفات العالية، وأورثه ذلك التعبد لله بالعبادات التي تليق بجلاله وكبريائه وعظمته. ومن لم يعرف الله بأسمائه وصفاته التي تليق به، فكيف يعبده، ويحبه، ويعظمه، ويخضع له؟ ! بل كيف يعبد إليهاً يجهله؟ ! . ينظر: أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن العربي، ت: محمد عطا (2/ 933).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى: (13/ 160).
7 -
قوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) النحل: 74، فيها رد على الممثلة، في قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ، كما أن فيها رداً على المعطلة الذين نفوا عن الله عز وجل صفاته، ومنها صفة العلم {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} .
8 -
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} الأنعام: 1، في هذه الآية رد على المعطلة بقوله:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فأثبت الله لنفسه الصفات، وفيها كذلك رد على المشبهة، بقوله:{بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي: يعدلونه بغيره فيجعلونه لغيره عدلاً.
9 -
قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} النحل: 116، وقال سبحانه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} الإسراء: 36، فيهما رد على من وصف ونسب لله ما لم يصف به نفسه، في قوله:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، كما أن فيهما رداً على من نفى عن الله ما وصف به نفسه، في قوله:{هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} الأنعام: 21 (1)، وكل هذا ينطبق على المعطلة والممثلة فقد نفوا عن الله ما وصف به نفسه، ووصفوه بما لم يصف به نفسه.
10 -
قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} البقرة: 163، وقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} البقرة: 255، وقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} آل عمران: 2، وقوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} التوبة: 129، وقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} طه: 8، وقوله:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} المؤمنون: 116، وغيرها من الآيات .. في هذه الآيات رد على الغالين في أسماء الله الحسنى؛ لأن فيها أن الذاكر بها يقولها كلها (2)، ولا يقتصر على لفظ
(1) تهذيب المدارج (1/ 334).
(2)
أي لفظ الشهادة: لا إله إلا الله.
الجلالة، ولا على (هو) كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، وفيها كذلك إثبات الصفات خلافاً للمعطلة والمشبهة.
هذه الأقسام -التي رأيناها في الفصول الثلاثة السابقة-تشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نسميه التوحيد فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة، فهي متكافلة متلازمة يكمل بعضها بعضًا، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع منها هو خلل في التوحيد كله (1).
فالتوحيد هو إفراد الله عز وجل بما يستحقه ويختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، والإيمان أوسع من ذلك يدخل فيه توحيده والإخلاص له، ويدخل فيه تصديقه في كل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضوع الفصل التالي بإذن الله تعالى.
(1) ينظر: الكواشف الجلية، لعبد العزيز المحمد السلمان (ص 422)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العزّ (1/ 41).
الباب الثاني:
الفصل 4 الآيات الواردة في مسائل الإيمان.
وفيه تمهيد ومبحثان:
تمهيد في تعريف الإيمان.
المبحث الأول: ما جاء في البدع المتقابلة
في مسائل الإيمان.
المبحث الثاني: الآيات الرادة على البدع
المتقابلة مسائل الإيمان.