الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسْتَحق هَذَا الثَّنَاء، بل هُوَ ملوم، فَدلَّ أَن المُرَاد مِنْهُ مَا ذكرنَا.
وَفِي هَذَا الْإِيضَاح، وسوق جَمِيع الْخَبَر على وَجهه جَوَاب عَن احتجاج أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْمِسْكِين أمس حَاجَة من الْفَقِير، حَيْثُ إِنَّه نفى المتكفف أَن يكون مِسْكينا، وَجعل الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد مَا يُغْنِيه، أَي: لَا يجد شَيْئا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: " قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ -:
لَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي ترده التمرة وَالتَّمْرَتَانِ، واللقمة وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي يتعفف، اقرؤوا إِن شِئْتُم {لَا يسئلون النَّاس إلحافا} . وَمن يتعفف، وَلَيْسَ لَهُ بعض كِفَايَة كَانَ قَاتل نَفسه، كَمَا ذكرنَا.
قيل: دلّ على أَن الْمِسْكِين هُوَ الَّذِي لَهُ بعض الْغنى
، وَلَا يكون لَهُ تَمام مَا يُغْنِيه، وَالْفَقِير: من لَا مَال لَهُ، وَلَا حِرْفَة تقع مِنْهُ موقعا، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ " أَنه صلى الله عليه وسلم َ - كَانَ تعوذ من الْفقر ".
وَرُوِيَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم َ -
انه كَانَ يَقُول: " اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا، وتوفني
مِسْكينا، واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين ". قَالَ أَصْحَابنَا:" فقد استعاذ من الْفقر، وَسَأَلَ المسكنة، وَقد كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم َ - بعض الْكِفَايَة، فَدلَّ على أَن الْمِسْكِين من لَهُ بعض الْكِفَايَة ".
استدلوا بقوله جل جلاله: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة (16) } ، قَالُوا:" وَصفه بِشدَّة الْحَال، والالتزاق بِالتُّرَابِ من الْبُؤْس والفاقة "، قُلْنَا:" لم يقْتَصر فِيهِ على اسْم الْمِسْكِين، حَتَّى قرنه بِمَا دلّ على شدَّة حَاجته "، وَنحن لَا ننكر وُقُوع اسْم أَحدهمَا على الآخر بِقَرِينَة، فاستدلوا بِمَا اسْتدلَّ بِهِ أَبُو عبيد من الحَدِيث، وَمَا سبق من تَفْسِيره جَوَاب عَنهُ.
وَاحْتج القتيبي فِي الْفَقِير بِأَنَّهُ أوسع حَالا من الْمِسْكِين بقول الشَّاعِر:
(أما الْفَقِير الَّذِي كَانَت حلوبته
…
وفْق الْعِيَال فَلم يتْرك لَهُ الدَّهْر من سبد)
وَقَالُوا: " الْفَقِير الَّذِي لَهُ حلوبة يحلبها، وَهِي قدر قوته، وقوت عِيَاله، والمسكين: لَا شَيْء لَهُ ".
وَجَوَابه أَن نقُول: أما الْبَيْت فحجة عَلَيْكُم، لِأَن مَعْنَاهُ أَن الَّذِي كَانَت حلوبته وفْق قوت عِيَاله لَهُ قبل الْفقر، وَقد صَار بِحَيْثُ لَا سبد لَهُ وَلَا لبد، ثمَّ نقُول: اخْتلف أهل الْمعرفَة فِيهِ، فَمنهمْ من قَالَ مَا ذكرْتُمْ مستدلين بِمَا نقلتم وَبِغَيْرِهِ، وَمِنْهُم من جعل الْفَقِير أَشد حَالا من الْمِسْكِين، لما ذكرنَا من الْأَدِلَّة ولأمثالها.
وَقد ذكر أَبُو مَنْصُور الْأَزْهَرِي رَحمَه الله تَعَالَى اخْتِلَاف أهل اللُّغَة فِيهِ، واحتجاج كل فريق مِنْهُم لما ذهب إِلَيْهِ بحجته، ثمَّ قَالَ: " وَالَّذِي عِنْدِي فيهمَا أَن الْفَقِير والمسكين يجمعهما الْحَاجة، وَإِن كَانَ لَهما مَا يتقوتانه، إِمَّا لِكَثْرَة الْعِيَال أَو قلَّة مَا بأيديهما، وَالْفَقِير أشدهما حَالا؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْفقر، وَهُوَ كسر الفقار، وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول، فَكَأَن الْفَقِير لَا يَنْفَكّ عَن زَمَانه أقعدته عَن التَّصَرُّف مَعَ حَاجته، وَبهَا سمي فَقِيرا؛ لِأَن غَايَة الْحَاجة أَن لَا يكون لَهُ مَال، وَلَا يكون لَهُ سوى الْجَوَارِح مكتسبا، وَالْعرب تَقول للداهية الشَّدِيدَة: فاقرة، وَجَمعهَا فواقر، وَهِي الَّتِي تكسر الفقار، قَالَ الله تَعَالَى:{تظن أَن يفعل بهَا فاقرة (25) } .
وَذكر الْأَهْوَازِي فِي (شرح) احتجاج من جعل الْفَقِير أمس حَاجَة بقوله عز وجل: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر} ، سماهم مَسَاكِين، وَلَهُم سفينة لَهَا قيمَة، قَالَ: " وأنشدني (أَحْمد بن يحيى قَالَ) : أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي: