الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة الافتتاح
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله، وبعد: فإنَّ مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري جلَّ وعلا، فالعبادة ما لم تقم على المقاصد الشرعية فإنها تعدُّ في ميزان الله هباء تذروه الرياح، وسرابًا إذا جاء صاحبه في اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لم يجده شيئًا، ووجد الله عنده، فوفَّاه حسابه، والله سريع الحساب.
ومقاصد العباد تحتاج إلى تقويم وتشذيب ورعاية وعناية، ذلك أن النيات تقع موقع الأرواح من الأعمال، وتقوم مقام جذور الشجرة من السوق والفروع والأغصان، فكيف يكون حال الأجساد إذا نزعت منها الأرواح؟ وكيف يكون حال شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟
ومن يطالع الكتاب الكريم، وسنة المصطفى المختار بتدبر وتأمل يعلم أنَّ الدّين الإسلامي عني بإصلاح مقاصد المكلفين ونياتهم عناية تفوق اهتمامه بأي مسألة أخرى، ذلك أن الأعمال تصبح مظاهر جوفاء، وصورًا صمّاء إذا خلت من المقاصد الصادقة الحقة.
وقد حمدت الله كثيرًا على أن وفقني جل وعلا إلى اختيار هذا الموضوع: "مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين" كي يكون مجال بحثي في الرسالة التي أعدّها لنيل 'جازة (الدكتوراه) في الفقه المقارن من كلية الشريعة بجامعة الأزهر.
وقد ألزمت نفسي في بداية الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة متدبرًا متأملاً، حتى إذا وقفت على النصوص التي تتصل بالموضوع عدت إلى ما تركه السلف الصالح من
كنوز خيرة تتحدث عن هذا الموضوع وتجليه.
لم أشكُّ، والحمد لله من قلَّة المادة العلمية، فمباحث النيات من أوائل المسائل التي يتناولها العلماء والباحثون بالبسط والإيضاح، لأهميتها، ولأنَّ الترتيب الفقهي المنطقي يحتّم كون النيات في طليعة المسائل الفقهية. ومن الملاحظ أنَّ علماءنا الأوائل كانوا يفصِّلون في المباحث الأولى التي يتناولونها تفصيلا، لأنَّ عزائمهم في البدايات تكون قويَّة، وهممهم لا تزال تتطلع إلى تجلية الحقائق واستقصاء المسائل.
إلا أن الذي عانيت منه كثيرًا تضارب الآراء واختلافها، وقد أحوجني ذلك إلى كثرة ترديد النظر في الحجج والبراهين التي يوردها المتنازعون، وقد أكثرت من الاستشهاد بنصوص الأدلَّة القرآنية والحديثية، كي أصل إلى النتيجة السليمة التي يطمئن لها القلب وترضى بها النفس، وهذا منهج أحرص عليه دائمًا، فهدي المسلمين الذي علمناه أن يقتفي التابعون نهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين ولا يُخْرَج عن أقوالهم بحالٍ من الأحوال.
لم أكتف وأنا أقلِّب الكتب بالمطبوع منها، بل بذلت جهدي في الحصول على المخطوطات التي لم تر النور بعد، وصورت ونسخت ما تيسر لي منها، وبقيت مخطوطة (1) حرصت حرصًا شديدًا على الحصول عليها، وطال التطلاب لها ولم أعثر على مكانها إلا مد فترة وجيزة، فقد اطلعت على فهارس المكتبة العامة في المغرب الأقصى، فوجدتها ضمن خزانتها العامرة، فبادرت بطلبها ولم تصلني بعد.
لقد نظرت في موضوع البحث فهديت إلى أنَّ البحث ينبغي أن يكون في مقدّمة وبابين:
أما المقدمة فتعدُّ مدخلاً لا بدَّ منه للبحث، وقد عقدت لها ثلاثة مباحث، حدَّدت في الأول منها موضوع الرسالة من خلال تعريفي لمكونات عنوان الرسالة، فقد عرفت القصد والنية بإلقاء الضوء على معناهما اللغوي والاصطلاحي، وعرفت التكليف
(1) هي "الأمنية في النية" للقرافي المالكي.
والمكلفين، وبينت مفهوم العبادة وحدودها وأصلها ومعناها، واصطلاح الفقهاء فيها.
وقد خلصت إلى أنَّ موضوع الرسالة جزء من إرادات المكلفين، هو تلك الإِرادة الجازمة التي تتجه نحو أعمال شرعية معينة، هي العبادات دون غيرها لتحقيقها وإيجادها. وفي المبحث الثاني أوردت الأدلة النقلية والعقلية التي لا تبقي مجالاً للشك والارتياب في أنَّ القصود معتبرة في العبادات والتصرفات، وقد أوردت في هذا المبحث الاعتراضات على تلك الأدلة ودحضتها بالحجَّة والبرهان.
أمّا المبحث الثالث من المقدمة فقد حوى فضائل المقاصد وعظيم أجرها. والناظر فيه ببصيرة سيعلم خطر هذا الموضوع وسيمضي -إن شاء الله تعالى- في العناية بمقاصده بجدّ وعزيمة وقادة يرنو من وراء ذلك إلى تحصيل ذلك الفضل العظيم الذي يحققه المصلحون لمقاصدهم.
وقد عنونت للباب الأوّل بعنوان "النيّات"، ذلك أنَّ النيَّة هي المصطلح الذي ارتضاه الفقهاء، واستعملوه في مباحثهم، وقد مهدت للباب بإيضاح السبب الذي انقسم البحث -من أجله- إلى بابين: ذلك أنَّ المقاصد تتوجه إلى أمرين دائمًا، الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه، وهذا خصصنا لمباحثه الباب الأول.
والثاني: الغاية البعيدة التي يريدها القاصد من وراء عمله، فالإنسان لا ينطلق إلى العمل ما لم يلمح فيه ما يدعوه إلى فعله، وقد يطلق العلماء على هذا اسم الدافع أو الغاية، والمتأمل في نصوص الكتاب والسنَّة يعلم أنَّ خير ما يعنون له به اسم "الإِخلاص"، ومن أجل ذلك ارتضيناه على سواه.
والباب الأوّل انتظم بعد التمهيد في ستة فصول:
في الفصل الأول حققت القول في أنَّ مكان النيَّة القلب، وفاقا لأهل السنة، لا الدماغ كما تقوله العزلة ومن تابعهم من الفقهاء، وعرضت لمفهوم القلب، ورجحت أن المراد به تلك اللطيفة الربانية المتعلقة بالقلب الجِسْماني، وليس هو القلب الجسماني نفسه كما فهمه بعض العلماء.
وبحثت في هذا الفصل عدة مسائل تدور حول التلفظ بالنية:
الأولى: حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب.
الثانية: مخالفة اللسان لما نواه المرء في قلبه.
الثالثة: حكم الجهر بالنية.
الرابعة: حكم التلفظ بها همسًا.
وقد بينت في كل مسألة منها آراء الفقهاء وأدلتهم والمناقشات التي وردت عليها، وأبرزت الرأي الراجح، والأدلة التي اقتضت رجحانه.
وعقدت في الفصل الأوّل مبحثًا هامًّا للقصد المجرد الذي لم يتحقق في واقع الأمر، ذلك أنّه قد شاع عند كثير من العلماء أنَّ القصد المجرد لا عقوبة عليه، وإن بلغ مرتبة العزم الجازم.
وخصصت الفصل الثاني بالمباحث التي تتعلق بوقت النيّة في كلِّ عبادة من العبادات، وقد طال البحث في وقت نيّة الصيام بسبب الخلاف الذي دار حول جواز الصيام بنيّة متأخرة من الليل.
والفصل الثالث يتحدث عن صفة النيّة في كلِّ عادة من العبادات، وفيه أيضا ردٌّ على الذين يقولون بوجوب الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة حين الإحرام، وعلى من قال بوجوب استحضار قضايا الاعتقاد، وقد سبب القول بذلك إشكالات لا نزال نرى آثارها عندما ندخل بيوت الله لدى بعض المسلمين.
وتناولت في الفصل الرابع شروط النية الثمانية، وضممت لكلَّ شرط من الشروط المسائل التي تتعلق به، وهي مسائل كثيرة، حاجة الناس إليها شديدة لكثرة وقوعها ودورانها.
وتعرضت بالبحث والبيان لحكم العبادات التي فقدت هذه الشروط وبهذا نكون قد استغنينا عن عقد فصل مستقلٍّ لبيان مبطلات النيَّة ومفسداتها، وسنجد في الفصل الخامس عرضًا لمذاهب العلماء وآرائهم والراجح منها في مسألة النيابة في النية.
وفي هذا الفصل مسألة أخرى شديدة الارتباط بموضوع الفصل وهي إهداء ثواب العبادة للأموات، وقد ثار حول هذه المسألة جدل شديد في الماضي ولا يزال.
وفي الفصل الأخير فصَّلت القول في العبادات التي تفتقر إلى النيَّة، والعبادات التي لا تفتقر إليها، وقد طال البحث والتقصي في لزوم النية لطهارتي الغسل والوضوء، ولعلي أكون قد وفرت على الباحث في هذا جهدًا ليس بالقليل إن شاء الله تعالى.
وفي ختام الفصل مبحث متواضع عقدته لبيان حكم النيَّة في العبادات، أهي ركن أم شرط.
وقد انتظمت مباحث الباب الثاني في أربعة فصول يسبقها تمهيد.
التمهيد قصدت به بيان عظم الغاية وأهميتها، وبينت هنا أنَّ الغاية التي يتصورها الِإنسان هي المحرِّك له دائمًا إلى الفعل، ولذلك كانت الغايات التي تستقر في القلوب والنفوس ذات تأثير شديد في حياة الأفراد والجماعات.
وفي التمهيد تفريق بين المقاصد الطبعية والشرعية.
والفصل الأول مخصص لبحث الغاية التي يريد الإسلام إقرارها في النفوس، وهي الغاية التي ينبغي أن ترتسم في ذهن كل إنسان لتصلح الحياة والأحياء، وإذا ضلَّت عنها البشرية وقعت في مستنقع آسن، لا تغني عنها بعد ذلك حياة الترف، ولا نعيم الدنيا.
وقد وضحت الأسباب المنطقية والعقلية والشرعية التي تجعل هذه الغاية هي الأمر الحتمي الذي لا غنى عنه.
وكان لزامًا علَّي في الفصل الثاني أن أبين الزيف الذي أحاط بالغاية الإِسلامية التي أقرها الشارع ودعانا إليها، وذلك ببيان المفهومات الخاطئة التي كانت تشوه الغاية وتطمس معالمها.
وعقدت الفصل الثالث لبيان المقاصد السيئة التي تزاحم الإخلاص وتضاده، وقد تناولت أربعة منها وهي: الهوى، والرياء، وقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، والهروب من العبادة.
ولم أغفل حين بحثت هذه المقاصد أن أسلِّط الضوء على العلاج الذي يشفي متعاطيه من هذه الأدواء.
وفي ختام الفصل وضحت الأمر الضابط لمقاصد المكلفين.
وفي الفصل الرابع والأخير تحدثت عن مدى تأثير المقاصد في المباحات والمحرمات والمبتدعات، وتحدثت عما يسمى بالنية الحسنة التي يظن كثير من الناس أنها تجعل العمل السيء عملا مشروعا مقبولا.
وقد ختمت الرسالة بملحق قصدت فيه إيراد إيضاحات مهمة تتعلق بالحديث الذي يكثر دورانه لدى الباحثين في المقاصد وفي كتاباتهم، وهو حديث "إِنمّا الأعْمَالُ بِالنيَّاتِ".
وبعد: فإنني لا أدعي أنني بلغت الغاية التي ينبغي أن يصل البحث إليها، ولكنني أقول لقد بذلت ما في وسعي، وأعطيت البحث الكثير من وقتي وفكري، ولم يكن دوري دور الجامع المدون لآراء الفقهاء، ولم أكن حاطب ليل يسير على غير هدى، لقد كنت حريصا على أن أعرف أبعاد القضايا التي أتناولها، وكنت أجتهد في معرفة آراء الفقهاء بأدلتها، كما كنت أبذل الجهد في التعرف على مأخذهم من الأدلة، وأناقش الأدلة التِى أرى أن الاستدلال بها غير سديد، لضعف الدليل أو لعدم صلاحيته للاستدلال على تلك المسألة. وفي كثير من الأحيان حررت محلّ النزاع، كما كنت معنيًّا بترجيح الأقوال، حتى لا أترك القارىء حائرًا لا يدري ما يأخذ وما يدع.
وإذا كان في هذه المباحث زلة جاءت من قصور في البحث، أو من غفلة القلب، أو من حيرة الفكر، فأنا عائد إلى الحق عندما يتبدى لي -بحول الله وقوته- أسرع من رجع الصدى، فالحقُّ قديم، والرجوع إليه خير من التمادي في الباطل، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها.
وفي الختام أوجه الشكر إلى كلِّ من قدَّم لي عونًا، أو أسدى إليَّ يدًا وأخصُّ منهم فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق الذي كان له فضل السبق في
الإشراف على هذه الرسالة، وفضيلة الشيخ عبد الجليل سعد القرنشاوي الذي ارتضى الإشراف عليها بعد أن حولت إليه، فجزاهما الله عني خير الجزاء عمّا قدماه لي من توجيه وتقويم ونصح وإرشاد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عمر سليمان الأشقر
مدينة نصر القاهرة
15 من ربيع الأول 1400 هـ 2 من فبراير 1980م