الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا أرى مأخذا على ما ذهب إليه صاحب الهداية فقد نصَّ على أنَّ النيَّة هي الِإرادة، وكون الناوي لا بد أن يعلم ما سينويه صحيح، لأنَّ النية وإن كانت إرادة وقصدا إلاّ أنها لا يمكن أن تحصل أو تقع مع الجهل، فالنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله فلا بد أن ينويه ضرورة، وإذا جهل الأمر فكيف ينويه؟
أمّا القول بأنَّ مطلق العلم بالشيء نية فهو خطأ بيِّن، وإلّا لزم من علم الكفر أن يكون كافرا، مع أنَّ الذي ينوي الكفر كافر (1).
هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده
هل يمكن للِإنسان أن يوجّه نيته الوجهة التي يريد، إذا شاء أن يكون مخلصا؟ وهل يتحقق ذلك تلقائيا؟
يقول الغزالي: (2)"اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصيّة بتحسين النيّة وتكثيرها مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأعْمَالُ بالنيّاتِ" فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله: نويت أن أدرس لله، أو آكل لله. ويظنّ أنَّ ذلك نيّة، وهيهات! فذلك حديث نفس، وحديث لسان وفكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر، والنية بمعزل من جميع ذلك، وإنما النيَّة انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أنَّ فيه غرضها إمّا عاجلا وإمّا آجلا، والميل لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام، وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلانا وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال"(3).
(1) راجع حاشية ابن عابدين (1/ 304 - 305).
(2)
هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي، ولد في خراسان سنة (450 هـ)، ونبغ في علوم عدة، وألف في فنون كثيرة، وأشهر كتبه (إحياء علوم الدين)، و (المستصفى) في الأصول، و (تهافت الفلاسفة). توفي عام (505 هـ) في بلده التي ولد بها. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 9/ 168)، (معجم المؤلفين 11/ 266).
(3)
إحياء علوم الدين (4/ 373).
وممن نصَّ على هذه الحقيقة وأدركها العلامة ابن خلدون (1)، قال:"الأعمال الظاهرة كلُّها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشرية، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار متعاصية على الحكم البشري، إذ لا سلطان له على الباطن"(2)(3).
فإذا كان العبد ليس له سلطان على نيته، فكيف يؤمر بأن يوجهها توجيها معينا؟! كيف يأمرنا الشارع بالِإخلاص ويجعله أعظم التكاليف الشرعية؟!
ونحن نعلم أنَّ شرط التكليف أو سببه قدرة المكلف على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا، وإن جاز عقلا!!
(1) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد الإشبيلي الحضرمي، فيلسوف مؤرخ، عمل في شؤون الدولة، وولي قضاء المالكية في مصر، اشتهر بكتابه:(العبر وديوان المبتدأ والخبر)، وتعد مقدمة الكتاب مرجعا هاما في علم الاجتماع، بل الكتاب الأول في هذا العلم، ولد في سنة (732 هـ)، وتوفي في سنة (808 هـ). (الأعلام 4/ 106).
(2)
شفاء السائل (ص 26).
(3)
إلا أن العلماء المحدثين اليوم يجادلون في صحة هذه النظرية، ويرون أن الإنسان يستطيع التحكم في كثير من الأمور التي كان يظن أنها (لا إرادية)، ففي عام 1962 اخترع (بيتر لانج) من جامعة (بيتسبرج) جهازا يسمح للإنسان بأن يتابع التغير في معدل ضربات قلبه على شاشة، طلب (لانج) من الأشخاص الذين يجري عليهم تجاربه؛ أن يتحكموا في معدل نبضهم بحيث يبقى عند حد معين، معتمدين على إراداتهم فقط، فحصل على نتائج مدهشة.
وفي عام (1965) استطاع العالمان (ايلمد وجرين) من مؤسسة (فينجار) في ولاية كانساس) تدريب النساء والأطفال على تغيير حرارة الكف بالاعتماد على التحكم الإرادي في البدن، وقد ساعد على سرعة تعلم هذه القدرة جهاز يقرأ عن طريقه الشخص موضوع التجربة التغييرات التي تحدث في درجة حرارة الكف. عن طريق هذا الجهاز استطاع بعض هؤلاء الوصول إلى هذه المقدرة بعد عدة أيام .. ، وفي بعض الأحيان بعد عدة ساعات
…
وقد قادت هذه الأبحاث الرائدة، إلى آلاف التجارب في جميع أنحاء العالم في المستشفيات ومراكز البحث العلمي والطبي والجامعات، وتم ابتكار العديد من الأجهزة المساعدة التي تظهر للشخص ما يحدث من تغيير في العمليات الحيوية (اللاإرادية) داخل جسمه .. ، وأثبتت هذه التجارب قدرة الإنسان على التحكم الإرادي في وظائف الجسم (اللاإرادية)
…
، وهذه الكشوف تستدعي أن نعيد النظر في بعض النظريات التي أصبحت لدينا مسلمة لا تقبل الجدل على الرغم أنه لم يدل عليها دليل شرعي صحيح (راجع مجلة العربي الكويتية عدد ذي الحجة 1396، ديسمبر 1976 ص 42).
أجاب الشاطبي (1) عن هذه القضية ووضحها قائلا: "إذا ظهر من الشارع في بادىء الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه، فقول الله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إلَاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2)، وقوله في الحديث: "كُنْ عَبْد الله المَقْتولَ، ولَا تكُنْ عَبْدَ الله القَاتِلَ" (3)، وقوله: "لا تَمُتْ وأنْتَ ظَالِم"، وما كان نحو ذلك، ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة، وهو الإسلام وترك الظلم والكفّ عن القتل والتسليم لأمر الله تعالى، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل"(4).
وعلى ذلك فيكون التكليف بتوجيه العبد نيتة إلى الإِخلاص وقصد الله دون سواه باكتساب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، بأن يتعرف على الله، ويتملى في بديع صنعه، وعظيم نعمه، ويتعرّف إلى صفاته، وينظر في عظيم ثواب الطائع، وعظيم عقوبة العاصي، وينظر في الفوائد التي تعود عليه من الطاعات في الدنيا والآخرة، فعند ذلك تنبعث النفس إلى العمل بطاعة الله صادقة مخلصة. وإذا كان الغالب على العبد أمر الدين، وامتلأ قلبه بحب الله وخوفه ورجائه سهل عليه استحضار النيَّة، لأن قلبه مائل إلى الخير باستمرار، أما الذي يميل قلبه إلى الدنيا دائما فإنّه يصعب عليه الإخلاص.
(1) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أصولي حافظ من أئمة المالكية، له كتاب (الموافقات)، وكتاب (الاعتصام)، توفي سنة (790 هـ)(الأعلام1/ 71)، (معجم المؤلفين 1/ 128).
(2)
سورة آل عمران/ 102.
(3)
رواه أحمد في مسنده (5/ 101).
(4)
الموافقات (2/ 78).