الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن جادة الصواب. والسعادة تكمن في التوجه الصادق إلى الله دون سواه.
هذا في الدنيا، وهناك السعادة والشقاء في الآخرة، وهما مرتبطان بمسيرة الإنسان في هذه الحياة، فالذي توجه إلى الله وحده في الدّنيا دون سواه، وعمل في دنياه للغاية الباقية، فإنه في الآخرة من الفائزين السعداء، وتلك السعادة كما يقول الغزالي:"بقاء بلا فناء، ولذة بلا عناء، وسرور بلا حزن، وغنى بلا فقر، وكمال بلا نقصان، وعزّ بلا ذلّ"(1).
وهذه هي السعادة الحقيقية الباقية الدائمة، وغيرها مضمحلّ ذاهب. يقول ابن حزم في هذا:"إذا تعقبت الأمور كلَّها فسدت عليك، وانتهت في آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا إلى أنّ الحقيقة إنّما هي العمل للآخرة فقط؛ لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن، إما بذهابه عنك، وإمّا بذهابك عنه؛ ولا بد من أحد هذين السبيلين؛ إلا العمل لله عز وجل، فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل: أمّا في العاجل فقلة الهمّ بما يهتم به النّاس، وإنك به معظّم من الصديق والعدو؛ وأما في الآجل فالجنَّة". (2)
4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:
إنَّ مفهوم العبودية لله في الإسلام يعني الحرّية في أرقى صورها وأكمل مراتبها، العبودية لله إذا كانت صادقة تعني التحرر من سلطان المخلوقات والتعبد لها، فالمسلم ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فالله خلق كل ما فيه من
(1) ميزان العمل ص 180.
(2)
الأخلاق والسير ص 13.
(3)
سورة طه / 123 - 127.
أجلنا، وسخّره لنا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السمَوَاتِ وَمَا في الأرْضِ جَميعًا منه
…
} (1).
وما دام الأمر كذلك فالمسلم لن يخضع لهذه المخلوقات، وبين يقصدها لأنها أقل منه شأنا، فهي مخلوقة لنفعه وصلاحه.
والمسلم لن يستعبده إنسان مثله، فالناس جميعا عبيد الله، فإنْ حاول بعض المتمردين من بني الإنسان أن يطغى ويبغي- وقف المسلم في وجهه يقول كلمة الحق، ويذكر هؤلاء بأصلهم الذي منه خلقوا، ومصيرهم الذي لا بدَّا لهم منه، ويذكر هؤلاء بضعفهم وعجزهم، علَّهم يفيقون ويرجعون. وبالعبودية لله يتحرّر الِإنسان مِنْ أَهْوائِهِ، فالهوى شَرُّ وثنٍ يعبْد:{أرأيتَ من اتخَذَ إلهَهُ هَوَاه} (2) فالهوى قد يجْعل إليها معبودا يسيطر على نفس صاحبه، فلا يصدر إلا عن هواه، ولا يسعى إلاّ لتحقيق ما يبعثه إليه، والإسلام يعتبر الخضوع لأهواء النفس التي تدعو إلى المحرمات والآثام عبودية لهذه الأمور. أما التسامي عمّا تدعو إليه النفس من المحرمات -وكان كانت محبوبة للنفوس- فإنه يمثل في الإسلام الحريّة الحقة، لأنّه وإنْ قيدت حرّيته من جهة، بأن ألزم بترك بعض ما يشتهي، إلاّ أنه تحرّر من سلطان الهوى من جهة أخرى.
والذين يزعمون أنهم يستطيعون تحقيق الحريّة بعيدا عن الله ومنهجه مخطئون، لأنَّ الإِنسان، بل كل مخلوق، سيبقى عبدا شاء أم أبى، إلا أنه إن رفض الخضوع لله اختيارا فسيخضع لمخلوق مثله، لا يملك له نفعا ولا ضرا، بل قد يخضع لمن هو أقل منه شأنا، وبذلك يكون قد استبدل عبودية بعبودية، ولم يخرج من العبودية إلى الحرية، بل خرج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت، وثنا، أو صنما، أو بشرا، أو شمسا، أو قمرًا
…
، وقد ذمّ الله كل من كانت هذه
(1) سورة الجاثية / 13.
(2)
سورة الفرقان / 43.
صفته {وجَعَلَ مِنْهُم الْقِرَدَةَ والْخنازِيرَ وَعبدَ الطَّاغوتَ} (1)، فمما ابتلاهم به جزاء تكذيبهم أن جعلهم عبيدا للطواغيت بعد أن كانوا عبيدا لله.
وفي هذه الأيام تتردّد كلمة الحرية، ويزعمون أنَّ الثورة الفرنسية أعلنت هذا المبدأ، وأن هيئة الأمم المتحدة أقرت الحرية مبدأ، وليس الأمر كذلك، فإنَّ ما فعله هؤلاء أنَّهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة، إلى عبودية نظام آخر، وقانون آخر، وطائفة أخرى، ولكن هؤلاء جميعا بَقَوْا عبيدا، وإن ظَنّوا أنفسهم أحرارا، ولن يحررهم من سلطان البشر ويخلصهم من العبودية الظالمة إلاّ أن يكونوا عبيدا لله، يقصدونه وحده، وعند ذلك يتحررون من سلطان الآخرين، حتى من هوى النفوس التي تتردّد في أجسادهم.
وأكثر الناس بعدا عن العبودية لله هم أكثر الناس عبودية لغير الله، فهؤلاء الشيوعيون أعظم الناس تمردا على الله وبعدا عنه، يستكبرون حتى عن التصديق بوجوده، وهم أعظم الناس عبودية لغير الله، فالفئة الحاكمة في روسيا والصين تسيطر على رقاب الناس سيطرة كبيرة، فلا يكادون يجدون طعم الحياة.
والحريّة هناك وهم كبير، وسراب خادع، أراد الشيوعيون أن يتحرروا من سلطان الله، فأقاموا الدولة إليها تصادر حرية الأفراد، وتمنعهم من إبداء الرأي، وتتحكم في ممتلكاتهم، وتسوق الملايين إلى المعتقلات في صحراء سيبيريا، وإلى السجون التي غصَّت بالنزلاء على سعتها وكثرتها، وفي الأعياد يمر عشرات الملايين من البشر مطأطئي الرؤوس أمام جثة مؤسس المذهب المحنطة في الميدان الأحمر في موسكو!! لقد أخرجوا النّاس من ظلمات متراكمة إلى ظلمات أشدّ، وأخرجوهم من عبودية إلى عبودية، ولن يكون من مخلص من العبودية لغير الله إلا هذا الإسلام. ولقد صدق موفد المسلمين وبرَّحين واجه قائد الفرس قائلا: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل
(1) سورة المائدة / 60.