الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النيّة شرعًا
هل نقل الشارع النية من معناها اللغوي إلى معنى شرعي يخصها؟ يجيب جماهير العلماء بالإيجاب.
فالقاضي البيضاوي رحمه الله يعرِّف النية لغة، ثم يقول:"والشرع خصّها بالِإرادة والتوجه نحو الفعل ابتغاء لوجه الله -تعالى- وامتثالا لحكمه"، ثمَّ يقول:"والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي".
وهذا الذي ذهب إليه القاضي البيضاوي تابعه عليه أكثر العلماء من بعده ناقلين ومقررين له (1).
ومن حق الباحث أن يسأل عن المعنى الذي نقل إليه اللفظ.
وأستطيع أن أقرر بعد التأمل في التعريفات التي أوردوها أنَّ لهم في هذا مذهبين:
الأول: يقول "إنَّ المصطلح الشرعي للنية "قصد الشيء مقترنا بفعله" (2)، فهؤلاء يرون أنَّ النية في اللغة تطلق على القصد المقارن للفعل المتحقق، وعلى قصد الفعل الذي سيكون مستقبلا، فجاء الشارع وخصَّ النيَّة بالقصد المقترن بالفعل. وقد سبق أن بينت أنَّ الذين قالوا بهذا القول ليس لهم دليل يعضد
(1) من الذين تابعوا القاضي البيضاوي على قوله ابن حجر العسقلاني والمناوي والسيوطي، والكرماني، والسندي، والشوكاني، وصاحب دليل الفالحين والطيبي، وصاحب التوضيح من الحنابلة.
راجع: الفتح (1/ 13)، وفيض القدير (1/ 30)، ونيل الأوطار (1/ 148)، والكرماني على البخاري (1/ 18)، وحاشية السندي على النسائي (1/ 59)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 30)، والتوضيح (ص25)، ودليل الفالحين (1/ 52).
(2)
القسطلاني على البخاري (1/ 52).
مذهبهم، ويبدو أنَّ الذي ألجأهم إلى القول بذلك ما قام في نفوسهم من وجوب اقتران النيَّة بالعمل، وهو مذهب بعض العلماء في الصلاة والزكاة والحج
…
، فلما تقرَّر ذلك عندهم مذهبا وطريقا عمموا ذلك، وقالوا: لا بدَّ للنيّة -في اصطلاح الشرع- من أن تقترن بالفعل وإلا لم تكن نيَّة. وسيأتي تحقيق القول في هذه المسألة، وحسبنا أن نعلم هنا أن ما قرروه ليس أمرا اتفاقيا بل مختلف فيه.
الثاني: أنَّ النيَّة في اللغة شاملة لقصد الفعل ابتغاء وجه الله، أو لمنفعة دنيوية وعرض زائل، فخصصها الشارع بالتوجه نحو الفعل ابتغاء مرضاة الله، وهذا يشعر به كلام القاضي البيضاوي ومن تابعه.
وما ذهبوا إليه هنا يحتاج إلى نظر وتأمل، فالنية كما قرروا فعل من أفعال القلوب، وأفعال القلوب كأفعال الجوارح لم ينقل الشارع مسمّاها عن الاسم اللغوي إذا قصد بها وجه الله تعالى. لم ينقل الشارع حركة البدن بالسجود لله عن مسمّاها بالسجود للصنم، بل الكلّ سجود.
ولم ينقل حركته بالطواف لله عن مسمّاه بالطواف للصنم، بل الكلّ باق على مسماه اللغوي.
كل ما يمكن أن نقوله: السجود والطواف لله مأمور بهما، والسجود لغير الله والطواف بصنم منهيّ عنهما، وكذلك بالنسبة للنية التي هي حركة القلب وانبعاثه فإنها باقية على مسمّاها اللغوي لم ينقلها الشرع ولا خصصها، بل بين أن ما كان منها لله فهي المطلوبة المحبوبة، وما كان منها رياء وسمعة فهي مكروهة ممقوتة، وقد تنبَّه إلى هذا الصنعاني (1) ورجحه (2). ومما يؤيد هذا القول أن الذين قالوا بأنَّ
(1) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني المعروف بالأمير، محدث فقيه أصولي متكلم من أئمة اليمن، له (سبل السلام شرح بلوغ المرام)، (والعدة) حاشية علي (إحكام الأحكام لابن دقيق العيد)، ولد عام (1099 هـ)، وتوفي عام 1182 هـ.
(معجم المؤلفين 9/ 56)، (الأعلام 6/ 263).
(2)
العدة علي إحكام الأحكام (1/ 57).
للنية معنى شرعيا غير المعنى اللغوي -عندما فسّروا لفظ "النية" التي وردت في الأحاديث- لم يستطيعوا أن يحملوها على المعني الشرعي الذي افترضوه، بل حملوها على المعنى اللغوي، يقول القاضي البيضاوي عند تفسيره لحديث "إنَّما الأعمال بالنيّات" (1):"والنيَّة في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده"(2).
وهذا متحتم في كل الأحاديث التي ورد فيها لفظ النية (3)، كحديث "إنَّما يبعث المقتولون على نيّاتهم"(4).
وحديث: "ربَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيَّته"(5).
وحديث: "من غزا ولا ينوي إلَاّ عقالا فله نيته"(6).
ولا يمكن حمل هذه الأحاديث على المعنى الشرعي الذي فرضوه، بل إنَّ هؤلاء أنفسهم حملوها على المعنى اللغوي، فالصواب -إن شاء الله تعالى- أنَّ الشارع استعمل "النيَّة" في معناها اللغوي، ولم يضع لها معنى اصطلاحيا خاصا.
وقد نص على هذا التحقيق الذي قررناه هنا أحمد الحسيني (7) من المتأخرين قال: "قول الفقهاء في تعريف النية: هي القصد، وشرعا قصد الشيء مقترنا بفعله، ليس المراد منه أنَّ هذا المعنى "القصد" خاص باللغة، وليس مستعملا في
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما وانظر تخريجه في ملحق الكتاب. ص 519
(2)
ذكر قبل قليل من خرج هذا القول، باستيعاب ص 32.
(3)
إعمال الفكر والروايات (ص 4)، وقد انتصر المؤلف لهذا القول وأطال الكلام عليه.
(4)
صحيح البخاري (كتاب الصوم 6)، في صحيح مسلم (فتن 8)، الترمذي (فتن 10)، ابن ماجه (فتن 30، زهد 26).
(5)
مسند أحمد (1/ 397).
(6)
رواه أحمد في مسنده، (5/ 135، 320، 329)، والدارمي (جهاد 23).
(7)
هو أحمد بن أحمد بن يوسف الحسيني، محام من فقهاء الشافعية ولد وتوفي بالقاهرة (1271 - 1332 هـ)، له كتاب (مرشد الأنام)، شرح فيه قسم العبادات من كتاب الأم في (24 مجلدا)، وله كتب كثيرة غيره، منها:(نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام). (الأعلام 1/ 90)، معجم المؤلفين 1/ 157).
الشرع، بل هو مستعمل فيه، فكثيرا ما يستعمل لفظ النيّة في لسان الشرع مرادا منه القصد، كقولهم: تجب نيّة الصوم، فالنيّة فيه بمعنى قصد الصيام قبل دخول وقته الذي أوله طلوع الفجر، وهو العزم الذي هو أحد نوعي القصد الذي هو بمعنى النيَّة، فهذا المعنى شرعيّ أيضا" (1).
ثم بين أن المعنى الشرعي هو المعنى اللغوي وليس مختصا بالشرع، قال:"قولهم: وشرعا قصد الشيء مقترنا بفعله؛ ليس المراد منه أنَّ هذا المعنى غير لغوي، كيف وهو أحد نوعي القصد المتقدم، وكثيرا ما تستعمل العرب لفظ النيّة مرادا به المعنى المذكور"(2).
ثم يقرر بوضوح لا لبس فيه ما توصلنا إليه في ما سلف فيقول: "فهو "أي المعنى الشرعي"، لغوي وليس معنى جديدا مخترعا شرعا، وإنَّما نسبته إلى الشرع من حيث إنه معتبر في جميع أنواع العبادات ما عدا الصيام
…
" (3).
(1) نهاية الإحكام (ص 8، 9).
(2)
نهاية الإحكام (ص 8، 9).
(3)
المصدر السابق.