الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنة في التروك
ذهب الأعمُّ الأغلب من العلماء إلى أن التروك لا تفتقر إلى نيَّة (1)، وقد عللوا مذهبهم هذا بأنَّ التروك غير داخلة في الأعمال، فلا يشملها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا الَأعْمَال بِالنيات"، فالعبد يخرج عن عهدة النواهي، وإن لم يشعر بها، فضلا عن القصد إليها.
وكون الترك فعلا أو ليس بفعل مسألة خلافية أصولية، وقد احتج القائلون بأن الكف ليس فعلا بأنَّ الفعل في اللّغةِ حركة البدن كلّه أو بعضه، والترك ليس فيه حركة اصلا.
وأقوى ما يستدلّ به للقائلين بأنّ الكفّ فعل القرآن الكريم، فقد سمَّى الله الترك فعلا في آيتين من كتابه.
الأولى: قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (2)، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإِثم وأكل السحت سمّاه الله في هذه الآية صنعا في قوله. {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، أي وهو تركهم المذكور، والصنع أخص من مطلق الفعل، فصراحة الآية الكريمة على أنَّ الترك فعل في غاية الوضوح.
الآية الثانية: قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3)، أي وهو تركهم التناهي عن كل منكر، وصراحة دلالة هذه الآية على أنَّ الترك فعل واضحة.
(1) الذخيرة (1/ 239)، العيني على البخاري (1/ 32)، الحطاب على خليل (1/ 32).
(2)
سورة المائدة / 63.
(3)
سورة المائدة / 79.
وفي كلام العرب ما يدلُّ على أنَّ الترك فعل، فمن ذلك قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة (1):
لَئِنْ قَعَدْنَا والنبيُّ يَعْمَلُ
…
لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ المُضَلَّلُ
فسمى قعودهم عن العمل وتركهم له عملا مضللا.
ولذا فإن الكرماني لم يكن متجنّيا على النووي عندما أورد كلامه في أن التروك لا تحتاج إلى نيّة، ثم عقب عليه بأنَّ التروك تحتاج إلى نيّة، لأنَّ الترك كشف للنفس وهو عمل، ولأن التارك لا يحصّل ثواب الآخرة بتركه إلاّ إذا قصد ذلك (2).
والذي يظهر لي أنَّ الترك إن كان كفا للنفس فهذا هو الذي يصير فعلا كما لو أمرته النفس الأمارة بالزنى، أو السرقة فكفّها، فهذا يكون فعلا وعليه يحمل ما جاء في الآيات، فإنّ تركهم النهي عن المنكر كان بكفّ أنفسهم عن ذلك مع أنَّهم مأمورون به.
أما الترك الذي لا يخطر بالبال كترك الزنى، وترك شرب الخمر والسرقة من شخص لا تخطر بباله هذه الأمور، فهذا لا يعتبر فعلا.
وهذا الذي ذكرناه هنا هو قول المحققين من العلماء كابن حجر العسقلاني والكرماني وابن نجيم (3).
يقول ابن نجيم في هذه المسألة: "حاصل كلامهم أن الترك المنهيّ عنه لا يحتاج إلى نيّة للخروج عن عهدة النهي، وأما لحصول الثواب بأن كان كفا، وهو أن تدعوه النفس إليه قادرا على فعله، فيكف نفسه عنه خوفا من ربّه فهو مثاب، وإلا فلا ثواب على تركه، فلا يثاب على ترك الزنى وهو يصلي، ولا يثاب العنّين على ترك الزنى ولا الأعمى على ترك النظر المحرم"(4).
(1) البداية والنهاية (3/ 216).
(2)
الكرماني على البخاري (1/ 22).
(3)
فتح الباري (1/ 15)، (1/ 22)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 26).
(4)
الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 26).
وبنى ابن نجيم على هذا الذي قرّره أنّه إذا نوى شخص مال التجارة للقُنْية فإنّه يكون لها ولا زكاة فيه.
أمَّا إذا نوى العكس بأن نوى في ما كان للقنية أن يكون للتجارة، فإنه لا يكون للتجارة حتى يعمل للتجارة، لأنَّ التجارة عمل، فلا يتم بمجرد النية، والقنية ترك للتجارة فتتم بها.
ونظيره -فيما ذكر ابن نجيم- المقيم والصائم، والكافر، والمعلوفة، والسائمة، حيث لا يكون مسافرا، ولا مفطرا، ولا مسلما، ولا سائمة، بمجرد النية، ويكون مقيما، وصائما، وكافرا، بمجرد السنة لأنّها ترك العمل (1).
وبهذا الذي قرّرناه في التروك يندفع الإشكال القائل: لم وجبت النية في الصوم مع أنه ترك؟
والجواب أنه ترك مقصود مراد، فالنفس تجوع وتعطش وترغب في الجماع، والمرء يكف نفسه بإرادة وقصد.
وهذا الجواب أولى من جواب صاحب دليل الفالحين: "وجبت فيه، لأنه ملحق بالأفعال، إذ القصد منه قمع النفس عن معتاداتها، وقطعها عن عاداتها"(2).
(1) الأشباه والنظائر (ص 26).
(2)
دليل الفالحين (1/ 42).