المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح: - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولتحديدُ مَوضُوع البَحث

- ‌تعريف القصد

- ‌تعريف النيّة

- ‌الاشتقاق اللغوي:

- ‌النيَّة في الاصطلاح

- ‌1 - تعريف النية بالعزم والقصد:

- ‌2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة:

- ‌3 - تعريف النيّة بالإِخلاص:

- ‌4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته:

- ‌النيّة شرعًا

- ‌موقع النية من العلم والعمل

- ‌جنس النيّة في الموجودات

- ‌هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده

- ‌التكليف

- ‌مفهوم العبادة وحدودها

- ‌أصل العبادة ومبناها

- ‌العبادة في مصطلح الفقهاء

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المبحث الثانيالأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

- ‌أولاً: الأدلة القرآنية:

- ‌ثانيًا: الأحاديث النبوية:

- ‌ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري:

- ‌رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:

- ‌خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها:

- ‌سابعًا: تأثير النية فى الأعمال:

- ‌اعتراضات

- ‌المبحث الثالثفَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

- ‌1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله:

- ‌2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات:

- ‌3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:

- ‌4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:

- ‌5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات:

- ‌عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه:

- ‌هذا الحديث من جوامع الكلم:

- ‌البداءة به في المهمات:

- ‌6 - شرفت النيات بموجدها:

- ‌7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها:

- ‌8 - النيّات تميز الأعمال:

- ‌9 - المحوِّل العجيب:

- ‌10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية:

- ‌11 - تربية على اليقظة:

- ‌النية أفضل من العمل:

- ‌الباب الأولالنيات وما يتعلق بها من أحكام

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمَحَلّ النِّية

- ‌مَحَلّ النِّيَّة

- ‌حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

- ‌مناقشة القفال:

- ‌مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

- ‌الجهر بالنيّة

- ‌التلفظ بها همسًا

- ‌هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب

- ‌القصد المجرد عن العمل

- ‌مراتب الإرادة

- ‌الإِرادة غير الجازمة

- ‌لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة

- ‌الإِرادة الجازمة

- ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

- ‌أدلّة القائلين بالمؤاخذة

- ‌الفصل الثانيوَقت النّية

- ‌وقت النية في الطهارة

- ‌وقت النيّة في الصلاة

- ‌القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام:

- ‌القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير:

- ‌القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير:

- ‌تأخير النية

- ‌وقت نية الزكاة

- ‌وقت نيّة الصوم

- ‌تقديم النية في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌1 - القضاء والكفارة:

- ‌2 - صوم رمضان:

- ‌الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:

- ‌أدلتهم:

- ‌النيّة لكلّ يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

- ‌الليل كله وقت للنية

- ‌3 - صوم النذر

- ‌4 - صوم النفل

- ‌المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌الفصل الثالثصفة النِّيَّة

- ‌تمهيد

- ‌صفة نيّة الطهارة

- ‌إذا نوى مطلق الطهارة:

- ‌إذا نوى الغسل أو الوضوء:

- ‌إذا نوى المتطهر رفع الحدث:

- ‌إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها:

- ‌إذا نوى ما تستحب له الطهارة:

- ‌إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له:

- ‌إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها:

- ‌النية للتيمم

- ‌صفة النيّة في العبادات الواجبة

- ‌صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة

- ‌صفة النية في الصوم

- ‌صفة النيّة في الصلاة

- ‌نية الجماعة

- ‌نيّة القضاء والأداء

- ‌نية الجمع

- ‌صفة النية في النوافل

- ‌الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

- ‌قول أعجب وأغرب

- ‌الفصل الرابعشروط النِّيَّة ومبطلاتها

- ‌الشرط الأولأهلية من صدرت عنه النية

- ‌الوضوء والغسل والتيمم من الكافر

- ‌الزكاة من أهل الذمة

- ‌غسل الزوجة الكتابية

- ‌القربات التي أداها المسلم حال كفره

- ‌العبادة من غير المميز

- ‌حج الصغير الذي لا يميز

- ‌نيّة الصبي المميز

- ‌الشرط الثانيالجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

- ‌الشك

- ‌الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي

- ‌اختلطت ثياب طاهرة بنجسة

- ‌الشك في الصلاة التي فاتته

- ‌صيام يوم الشك

- ‌صيام الأسير

- ‌الشك في أصل النية

- ‌التردد في العبادة

- ‌تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما

- ‌الشرط الثالث‌‌استصحاب حكم النية

- ‌استصحاب حكم النية

- ‌رفض النية

- ‌رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌رفض نية العبادة في أثنائها

- ‌قلب النية وتغييرها

- ‌أقسام النيّة التي قلبت

- ‌الأول: نفل فرض إلى فرض:

- ‌الثاني: نقل فرض إلى نفل:

- ‌الثالث: نقل نفل إلى فرض:

- ‌الرابع: نقل نفل إلى نفل:

- ‌تغيير النيَّة

- ‌المنفرد يصبح إماما

- ‌الإمام يصبح مأموما

- ‌المأموم يصبح منفردا

- ‌المنفرد يتحوّل إلى مأموم

- ‌تغيير نية القصر إلى إتمام

- ‌اختلاف نيّة الإمام والمأموم

- ‌الأدلة النقلية

- ‌الاستدلال بالقياس:

- ‌الشرط الرابععدم التشريك في النيّة

- ‌الشرط الخامسأن تتعلق النية بمكتسب للناوي

- ‌الشرط السادسقصد العبادة دفعة واحدة

- ‌الشرط السابعمقارنة النيّة للمنوي

- ‌الشرط الثامنالعلم بصفات المنوي

- ‌الغلط في تعيين المنوي

- ‌الفَصل الخامسالنيَابة في النيَّة

- ‌تمهيد:

- ‌أدلّة الذين منعوا مطلقا

- ‌أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:

- ‌ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات:

- ‌ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

- ‌المجيزون مطلقا

- ‌موقفهم من حجج المانعين:

- ‌أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال:

- ‌موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:

- ‌موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

- ‌تحرير محلّ النزاع

- ‌أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها:

- ‌ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم:

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌حجج المانعين:

- ‌حجج المجيزين:

- ‌النظر في هذه الأدلة:

- ‌مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لَا يفتقِر إليَهَا

- ‌إزالة النجاسات

- ‌الأحداث التي تنقض الطهارة

- ‌النيّة في الوضوء والغسل

- ‌أدلة القائلين بعدم الوجوب

- ‌1 - أن الماء مطهر بطبعه:

- ‌2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية:

- ‌3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه:

- ‌4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية:

- ‌5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة:

- ‌6 - إطلاق النصوص:

- ‌7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة:

- ‌مناقشة الحجج التي أوردوها

- ‌أدلة الموجبين

- ‌أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل:

- ‌ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء:

- ‌ثالثا: القياس:

- ‌النيّة في التيمم

- ‌النيّة في الصلاة

- ‌النيّة في الزكاة

- ‌إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة:

- ‌صوم رمضان

- ‌النيّة في الحجّ والعمرة

- ‌النية في الاعتكاف

- ‌النية في الكفارات

- ‌النيّة لأعمال القلب

- ‌النيّة في الأقوال

- ‌السنة في التروك

- ‌حكم النيّة في العبادات

- ‌(ركن، أم شرط)

- ‌الباب الثانيالإخلاص

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

- ‌لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام

- ‌الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

- ‌الفصل الأولالغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

- ‌الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

- ‌شدة الإخلاص وصعوبته

- ‌لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

- ‌1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:

- ‌2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد:

- ‌3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه:

- ‌4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:

- ‌5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم:

- ‌حكم الإِخلاص في العبادات

- ‌الفصل الثانيمفهومات خاطئة للإخلاص

- ‌1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة

- ‌هل يمكن العمل بدون إرادة:

- ‌الفناء الحق:

- ‌2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

- ‌محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:

- ‌سرّ المسألة:

- ‌3 - قصد النعيم الأخروي

- ‌تنوّع المقاصد الخيّرة

- ‌الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

- ‌أولاً: اتباع الهوى

- ‌تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:

- ‌علاج الهوى

- ‌1 - تحويل الاتجاه:

- ‌2 - تقوية الإرادة:

- ‌3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا:

- ‌4 - محاسبة العبد نفسه:

- ‌ثانيًا: الرياء

- ‌ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين:

- ‌تعريف الرياء

- ‌الرياء لغة:

- ‌الرياء شرعًا:

- ‌الرياء والسمعة:

- ‌الرياء والعجب:

- ‌أسباب الرياء

- ‌الأمور التي يراءى بها

- ‌حكم العمل المراءى به

- ‌مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب:

- ‌شبهة وجوابها:

- ‌تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:

- ‌الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

- ‌الرياء بأوصاف العبادة

- ‌خفاء الرياء وتلونه

- ‌مزلق خطر

- ‌ترك العمل خوف الرياء

- ‌1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته:

- ‌2 - معرفة الرياء والتحرز منه:

- ‌3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:

- ‌4 - النظر في عواقبه الأخروية:

- ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

- ‌علامات القائم بالإِخلاص

- ‌ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

- ‌اعتراضات

- ‌رابعا: الهروب من العبادة

- ‌الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

- ‌الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

- ‌تأثير النيّة في المباحات

- ‌التوفيق بين الرأيين:

- ‌استحضار النية عند المباح:

- ‌تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة

- ‌الفرقة الأولى:

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثالثة:

- ‌التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

- ‌خاتمة القول

- ‌مُلحَقإيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات

- ‌تمهيد:

- ‌الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث

- ‌سبب الحديث

- ‌إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

- ‌كتب السنة التي أخرجته

- ‌هل أخرجه مالك في الموطأ:

- ‌طرق الحديث

- ‌مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

- ‌إشكالات أوردت على الحديث

- ‌1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا:

- ‌2 - أنّه حديث شاذ:

- ‌3 - أن فيه انقطاعا:

- ‌4 - أنه ليس حديثا فردًا:

- ‌5 - أنه متواتر:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

‌الإِرادة الجازمة

تحدثنا عن الإرادة غير الجازمة إذا لم تتمثل في فعل، وبقيت حبيسة في النفس من حيث الِإثابة والعقوبة عليها.

ونريد أن نبين هنا حكم الإرادة الجازمة من الحيثية نفسها، والإرادة الجازمة وهي "القصد أو العزم" تكون على أحد أمرين:

الأول: الجزم على فعل من أفعال القلوب: فهذا لم يخالف أحد من العلماء في أن العزم عليه مثاب صاحبه، إن كان المعزوم عليه خيرا، كالعزم على الإيمان، أو محبة الله ونحو ذلك. وأن المقاصد فعلا قلبيا سيئا مؤاخذ معاقب، كالذي يصمم على الكفر، وترك الإيمان، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنكار البعث، فهذا كافر بعزمه وتصميمه (1)، وعن مالك رواية قوّاها ابن العربي (2):"من اعتقد الكفر كفر، ومن أصرَّ على المعصية أثم"(3).

‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

وهذا وقع فيه النزاع، فذهبت طائفة إلى أنَّ المقاصد لعمل ما كشرب الخمر، أو ترك الصلاة لا يؤاخذ على قصده، وقد ذكر ابن حجر أنَّ القول بذلك هو نصّ الشافعي رحمه الله تعالى (4)، وقال السبكي: "خالف بعضهم -أي في أن العزم لا

(1) فتح الباري (11/ 328).

(2)

هو محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، من أعيان المالكية في الأندلس، فقيه محدث محقق، تولى قضاء إشبيلية مدّة، له (شرح الترمذي)، و (أحكام القرآن)، عاش ما بين (468 - 543 هـ).

(العبر في أخبار من غبر 4/ 125)، (طبقات الحفاظ ص 467)، (الأعلام 7/ 106).

(3)

فتح الباري (9/ 394).

(4)

فتح الباري: (11/ 328).

ص: 142

يؤاخذ به- وقال: إنه من الهمّ المرفوع" (1)، ومن هؤلاء المازري (2)، فقد حكى قول ابن الباقلاني (3) في أن العزم مؤاخذ به، ثم ردَّه، وقال: "وخالفه كثير من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين، واحتج على ما ذهب إليه بحديث أبي هريرة القدسي:"فأنا أغفرها له ما لم يعملها"(4).

وقد استدل القائلون بعدم المؤاخذة بالأدلّة الناطقة بعدم المؤاخذة على الهمّ، وقد سبق إيرادها، وقالوا: إن الهمّ في لغة العرب هو العزم، فهم يقولون:"هم بالشيء يهمّ همّا، نواه وأراده"(5).

فإذا صحّ أنَّ الهمّ هو العزم صحّ أنّه لا مؤاخذة عليه بنص الأحاديث القدسية والأقوال النبوية.

ونحن لا ننكر في مجال الحجاج أنَّ العرب تفسر الهم بالعزم، بل نقول: لقد ورد ذلك في كتاب الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (6)، والشاهد في الآية أنه سمّى الإِرادة المصممة التي كانت من امرأة العزيز هما، ولا خلاف في كونها عزما، وليست عزما مجردا، بل عزما حاولت معه تنفيذ ما عزمت عليه بإغلاق الأبواب، ودعوته إلى الفاحشة، والإِمساك به، وقد قميصه من دبر، وغير ذلك.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَهَموا بِمَا لمْ يَنَالُوا} (7)، فإنَّ سبب نزول هذه

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 34).

(2)

هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، محدث من فقهاء المالكة، نسبة إلى (مازر) بجزيرة صقلية، ولد سنة (453 هـ)، ووفاته بالمهدية سنة (536 هـ)، من مؤلفاته:(المعلم بفوائد مسلم)، (إيضاح المحصول في الأصول). راجع:(شذرات الذهب 4/ 114)، (الأعلام 7/ 164).

(3)

هو محمد بن الطيب الباقلاني، قاض من كبار علماء الكلام، ولد في البصرة ت (338 هـ)، وسكن بغداد، وتوفي بها سنة (403 هـ)، من كتبه (إعجاز القرآن)، و (الملل والنحل)، و (كشف أسرار الباطنية).

راجع: (تاريخ بغداد 7/ 46)(شذرات الذهب 3/ 168)(الأعلام 7/ 46).

(4)

فتح الباري (11/ 327)، وحديث (أنا أغفرها له .. ) رواه مسلم.

(5)

لسان العرب لابن منظور.

(6)

سورة يوسف: 24.

(7)

سورة التوبة: 74.

ص: 143

الآية أنَّ بعض المنافقين حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات. أقول: لا ينكر أن الهمَّ قد يفسر بالعزم في لغة العرب، ولكنّ الذي يستنكر ولا يوافق عليه أن يقال: إنَّ كلّ همّ عزم، فهذا غير صحيح. فالهمّ منه ما يكون عزما كما سبق بيانه، ومنه ما ليس بعزم، يقول الِإمام أحمد:"الهم همان: همّ خطرات، وهم إصرار"(1).

فمن الهمّ الذي ليس بعزم همّ يوسف عليه السلام على القول بأنّه همّ، إذ لم يكن همه عزما بالتأكيد.

ومنه هم الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت الذين لا يشهدون الجماعة "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثمَّ أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم"(2).

ومنه همّ عبد الله بن مسعود عندما همَّ بالجلوس وتَرْك الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا في صلاة الليل: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم"(3).

فهمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم عند الله، لم يكن عزما، إذ لو كان عزما لوقع مرادهما، لأن العبد إذا أراد إرادة جازمة، وكان الفعل المراد مقدورا، فلا بد من وقوع الفعل المراد. فلمّا لم يقع ما هم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هم به عبد الله - علمنا أن الإرادة عندهما لم تصل إلى درجة الجزم.

ومما اختلف فيه العلماء قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الاستخارة: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمَّ ليقل

" (4) الحديث.

(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 740).

(2)

صحيح البخاري (5 - الخصومات)، الفتح (5/ 74).

(3)

صحيح البخاري (9 - تهجد)، الفتح (3/ 19).

(4)

صحيح البخاري (25 - تهجد).

ص: 144

ففريق ذهب إلى أنَّ المراد بالهم هنا: الوارد أول ما يرد على القلب، فيستخير العبد عند وروده، فينظر ببركة الدّعاء والصلاة ما الخير، وهؤلاء يعلّلون تفسيرهم هذا بأنّه لو تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته- فإنَّه يخشى أن يخفى عليه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه.

وفريق يرى أنَّ الهمّ في الحديث العزم: لأنَّ الخاطر لا يثبت، فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التصميم على فعله، وإلّا لو استخار في كلّ خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته (1).

والذي يظهر لي أن الهم هنا ليس مجرد الخاطر، ولا العزيمة، وإنّما أراد به الميل إلى الفعل قبل أن يصل إلى مرحلة العزم والتصميم، إذ الخاطر ماض عابر، وما عزم على فعله لا يستخار فيه.

إذا ثبت أن الهمَّ نوعان: هم عزم وتصميم، وهمّ ليس كذلك، وثبت أنَّ العزم لا يكون إلا جازما، لأنَّ العزم في لسان العرب:"ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله"(2) -إذا ثبت ذلك؛ بطل استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة

، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتَبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها، فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة" (3) - على أن العزم معفو عنه، وممّا يدلّ على بطلان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فعملها"، "فلم يعملها"، ففيهما دلالة على أن هذا التقسيم في الحديث هو في رجل يمكنه الفعل فلم يفعل، وهذا ليس بجازم الإرادة، فالإرادة الجازمة لا تتخلف إذا وجدت القدرة التامة.

ومما يدل على أن الهم في الحديث ليس هو العزم قوله صلى الله عليه وسلم

(1) فتح الباري (11/ 185).

(2)

لسان العرب مادة (عزم).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 145

في حديث خريم بن فاتك الأسدي (1): "ومن هم بحسنة يعلم الله أنّه قد أشعر بها قلبه، وحرص عليها

" (2) قال ابن حجر معلّقا على الحديث: "هذا الحديث يدلُّ على أنَّ مطلق الهمّ والإرادة لا يكفي" (3).

ومما يدل على التفريق بن العزم والهمّ، أن من خطر في قلبه أن يقطع الصلاة فإنها لا تنقطع، فإن صمّم على قطعها بطلت.

رأينا كيف أنَّ القائلين بعدم المؤاخذة على القصد المجرد عن الفعل لم يستطيعوا أن يدللوا على ما ذهبوا إليه، وأن دليلهم الذي أتوا به لم يثبت في مجال التمحيص والنقاش، لذا فقد ذهب القاضي ابن الباقلاني إلى القول بالمؤاخذة على العزم، وتابعه القاضي عياض وقال:"عامّة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني، لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب"(4).

ومثل ذلك قال القرطبي: "وهذا المذهب الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين"(5).

ووصف ابن السبكي القائلين به بأنَّهم أهل التحقيق "وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به"(6).

وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: "أيؤاخذ العبد بما يهمّ به؟ قال: إذا جزم بذلك"(7).

(1) هو خريم بن فاتك الأسدي، صحابي شهد الحديبية، ولم يشهد بدرا، مات بالرفة في خلافة معاوية.

(تقريب التهذيب 2/ 223)، (الكاشف 1/ 279).

(2)

قال الحافظ في فتح الباري: (1/ 324): رواه أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم.

(3)

فتح الباري: (11/ 324).

(4)

فتح الباري: (11/ 327).

(5)

تفسير القرطبي (4/ 215)، وبه قال الكرماني في شرحه على البخاري (1/ 21)، وصاحب دليل الفالحين (1/ 82).

(6)

الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 34).

(7)

فتح الباري (11/ 328).

ص: 146