الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإِرادة الجازمة
تحدثنا عن الإرادة غير الجازمة إذا لم تتمثل في فعل، وبقيت حبيسة في النفس من حيث الِإثابة والعقوبة عليها.
ونريد أن نبين هنا حكم الإرادة الجازمة من الحيثية نفسها، والإرادة الجازمة وهي "القصد أو العزم" تكون على أحد أمرين:
الأول: الجزم على فعل من أفعال القلوب: فهذا لم يخالف أحد من العلماء في أن العزم عليه مثاب صاحبه، إن كان المعزوم عليه خيرا، كالعزم على الإيمان، أو محبة الله ونحو ذلك. وأن المقاصد فعلا قلبيا سيئا مؤاخذ معاقب، كالذي يصمم على الكفر، وترك الإيمان، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنكار البعث، فهذا كافر بعزمه وتصميمه (1)، وعن مالك رواية قوّاها ابن العربي (2):"من اعتقد الكفر كفر، ومن أصرَّ على المعصية أثم"(3).
الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:
وهذا وقع فيه النزاع، فذهبت طائفة إلى أنَّ المقاصد لعمل ما كشرب الخمر، أو ترك الصلاة لا يؤاخذ على قصده، وقد ذكر ابن حجر أنَّ القول بذلك هو نصّ الشافعي رحمه الله تعالى (4)، وقال السبكي: "خالف بعضهم -أي في أن العزم لا
(1) فتح الباري (11/ 328).
(2)
هو محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، من أعيان المالكية في الأندلس، فقيه محدث محقق، تولى قضاء إشبيلية مدّة، له (شرح الترمذي)، و (أحكام القرآن)، عاش ما بين (468 - 543 هـ).
(العبر في أخبار من غبر 4/ 125)، (طبقات الحفاظ ص 467)، (الأعلام 7/ 106).
(3)
فتح الباري (9/ 394).
(4)
فتح الباري: (11/ 328).
يؤاخذ به- وقال: إنه من الهمّ المرفوع" (1)، ومن هؤلاء المازري (2)، فقد حكى قول ابن الباقلاني (3) في أن العزم مؤاخذ به، ثم ردَّه، وقال: "وخالفه كثير من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين، واحتج على ما ذهب إليه بحديث أبي هريرة القدسي:"فأنا أغفرها له ما لم يعملها"(4).
وقد استدل القائلون بعدم المؤاخذة بالأدلّة الناطقة بعدم المؤاخذة على الهمّ، وقد سبق إيرادها، وقالوا: إن الهمّ في لغة العرب هو العزم، فهم يقولون:"هم بالشيء يهمّ همّا، نواه وأراده"(5).
فإذا صحّ أنَّ الهمّ هو العزم صحّ أنّه لا مؤاخذة عليه بنص الأحاديث القدسية والأقوال النبوية.
ونحن لا ننكر في مجال الحجاج أنَّ العرب تفسر الهم بالعزم، بل نقول: لقد ورد ذلك في كتاب الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (6)، والشاهد في الآية أنه سمّى الإِرادة المصممة التي كانت من امرأة العزيز هما، ولا خلاف في كونها عزما، وليست عزما مجردا، بل عزما حاولت معه تنفيذ ما عزمت عليه بإغلاق الأبواب، ودعوته إلى الفاحشة، والإِمساك به، وقد قميصه من دبر، وغير ذلك.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَهَموا بِمَا لمْ يَنَالُوا} (7)، فإنَّ سبب نزول هذه
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 34).
(2)
هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، محدث من فقهاء المالكة، نسبة إلى (مازر) بجزيرة صقلية، ولد سنة (453 هـ)، ووفاته بالمهدية سنة (536 هـ)، من مؤلفاته:(المعلم بفوائد مسلم)، (إيضاح المحصول في الأصول). راجع:(شذرات الذهب 4/ 114)، (الأعلام 7/ 164).
(3)
هو محمد بن الطيب الباقلاني، قاض من كبار علماء الكلام، ولد في البصرة ت (338 هـ)، وسكن بغداد، وتوفي بها سنة (403 هـ)، من كتبه (إعجاز القرآن)، و (الملل والنحل)، و (كشف أسرار الباطنية).
راجع: (تاريخ بغداد 7/ 46)(شذرات الذهب 3/ 168)(الأعلام 7/ 46).
(4)
فتح الباري (11/ 327)، وحديث (أنا أغفرها له .. ) رواه مسلم.
(5)
لسان العرب لابن منظور.
(6)
سورة يوسف: 24.
(7)
سورة التوبة: 74.
الآية أنَّ بعض المنافقين حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات. أقول: لا ينكر أن الهمَّ قد يفسر بالعزم في لغة العرب، ولكنّ الذي يستنكر ولا يوافق عليه أن يقال: إنَّ كلّ همّ عزم، فهذا غير صحيح. فالهمّ منه ما يكون عزما كما سبق بيانه، ومنه ما ليس بعزم، يقول الِإمام أحمد:"الهم همان: همّ خطرات، وهم إصرار"(1).
فمن الهمّ الذي ليس بعزم همّ يوسف عليه السلام على القول بأنّه همّ، إذ لم يكن همه عزما بالتأكيد.
ومنه هم الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت الذين لا يشهدون الجماعة "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثمَّ أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم"(2).
ومنه همّ عبد الله بن مسعود عندما همَّ بالجلوس وتَرْك الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا في صلاة الليل: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم"(3).
فهمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم عند الله، لم يكن عزما، إذ لو كان عزما لوقع مرادهما، لأن العبد إذا أراد إرادة جازمة، وكان الفعل المراد مقدورا، فلا بد من وقوع الفعل المراد. فلمّا لم يقع ما هم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هم به عبد الله - علمنا أن الإرادة عندهما لم تصل إلى درجة الجزم.
ومما اختلف فيه العلماء قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الاستخارة: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمَّ ليقل
…
" (4) الحديث.
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 740).
(2)
صحيح البخاري (5 - الخصومات)، الفتح (5/ 74).
(3)
صحيح البخاري (9 - تهجد)، الفتح (3/ 19).
(4)
صحيح البخاري (25 - تهجد).
ففريق ذهب إلى أنَّ المراد بالهم هنا: الوارد أول ما يرد على القلب، فيستخير العبد عند وروده، فينظر ببركة الدّعاء والصلاة ما الخير، وهؤلاء يعلّلون تفسيرهم هذا بأنّه لو تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته- فإنَّه يخشى أن يخفى عليه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه.
وفريق يرى أنَّ الهمّ في الحديث العزم: لأنَّ الخاطر لا يثبت، فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التصميم على فعله، وإلّا لو استخار في كلّ خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته (1).
والذي يظهر لي أن الهم هنا ليس مجرد الخاطر، ولا العزيمة، وإنّما أراد به الميل إلى الفعل قبل أن يصل إلى مرحلة العزم والتصميم، إذ الخاطر ماض عابر، وما عزم على فعله لا يستخار فيه.
إذا ثبت أن الهمَّ نوعان: هم عزم وتصميم، وهمّ ليس كذلك، وثبت أنَّ العزم لا يكون إلا جازما، لأنَّ العزم في لسان العرب:"ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله"(2) -إذا ثبت ذلك؛ بطل استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة
…
، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتَبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها، فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة" (3) - على أن العزم معفو عنه، وممّا يدلّ على بطلان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فعملها"، "فلم يعملها"، ففيهما دلالة على أن هذا التقسيم في الحديث هو في رجل يمكنه الفعل فلم يفعل، وهذا ليس بجازم الإرادة، فالإرادة الجازمة لا تتخلف إذا وجدت القدرة التامة.
ومما يدل على أن الهم في الحديث ليس هو العزم قوله صلى الله عليه وسلم
(1) فتح الباري (11/ 185).
(2)
لسان العرب مادة (عزم).
(3)
سبق تخريجه.
في حديث خريم بن فاتك الأسدي (1): "ومن هم بحسنة يعلم الله أنّه قد أشعر بها قلبه، وحرص عليها
…
" (2) قال ابن حجر معلّقا على الحديث: "هذا الحديث يدلُّ على أنَّ مطلق الهمّ والإرادة لا يكفي" (3).
ومما يدل على التفريق بن العزم والهمّ، أن من خطر في قلبه أن يقطع الصلاة فإنها لا تنقطع، فإن صمّم على قطعها بطلت.
رأينا كيف أنَّ القائلين بعدم المؤاخذة على القصد المجرد عن الفعل لم يستطيعوا أن يدللوا على ما ذهبوا إليه، وأن دليلهم الذي أتوا به لم يثبت في مجال التمحيص والنقاش، لذا فقد ذهب القاضي ابن الباقلاني إلى القول بالمؤاخذة على العزم، وتابعه القاضي عياض وقال:"عامّة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني، لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب"(4).
ومثل ذلك قال القرطبي: "وهذا المذهب الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين"(5).
ووصف ابن السبكي القائلين به بأنَّهم أهل التحقيق "وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به"(6).
وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: "أيؤاخذ العبد بما يهمّ به؟ قال: إذا جزم بذلك"(7).
(1) هو خريم بن فاتك الأسدي، صحابي شهد الحديبية، ولم يشهد بدرا، مات بالرفة في خلافة معاوية.
(تقريب التهذيب 2/ 223)، (الكاشف 1/ 279).
(2)
قال الحافظ في فتح الباري: (1/ 324): رواه أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم.
(3)
فتح الباري: (11/ 324).
(4)
فتح الباري: (11/ 327).
(5)
تفسير القرطبي (4/ 215)، وبه قال الكرماني في شرحه على البخاري (1/ 21)، وصاحب دليل الفالحين (1/ 82).
(6)
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 34).
(7)
فتح الباري (11/ 328).