الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
حديث ابن عباس أيضا، أنَّ سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن أمي ماتت وعيها نذر؟ فقال: اقضه عنها"(1).
موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:
أولا: تضعيف هذه النصوص:
قالوا يدلّ على ضعفها اضطرابها، ففي بعض الروايات أن الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم رجل، وفي رواية امرأة، وفي رواية أنَّ المسؤول عن الصيام عنه أب، وفي رواية أم، وفي رواية أخت، والمسؤول فيه في رواية حجّ، وفي أخرى صوم (2). وحسبنا في الردِّ عليهم أن هذه التي قالوا: إنها مضطربة، اتفق على إخراجها البخاري ومسلم.
وقد حقَّق العلماء، أنَّ هذا الاضطراب غير قادح، لأنّه من باب اختلاف الوقائع، بل فى بعض الروايات توضيح لذلك، كتلك الرواية التي أخرجها مسلم، وقد سألت المرأة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحجّ عن أمها، والصيام عنها.
ثم توجد نصوص من تلك الأحاديث لا اضطراب فيها. وضعفوها أيضا من جهة مخالفة الرواة لها "عائشة وابن عباس" بفتواهما، وهذا غير قادح، لأن الحجَّة بما رواياه.
ثانيا: جعل الشاطبي عدم أخذ العلماء بهذه الأحاديث أو ببعضها دليلا على ضعف الأخذ بها في النظر، ومما ضعّفها في نظره، أنها تدلّ على جواز النيابة في الحجّ، والحجّ يشتمل على ركعتي الطواف، وقد أجمع العلماء على عدم جواز
(1) متفق عليه.
(2)
الموافقات (2/ 74).
النيابة في الصلاة (1). وهذا الذي ذكره لا يوجب ضعف هذه الأحاديث، إذ ليس مما يضعّف الحديث عدم أخذ العلماء به كما هو مقرر في علم أصول الحديث، والصلاة في الحج "ركعتا الطواف" إنّما جازتا على وجه التبعية، إذ هما تابعتان ولم يقصدهما مؤديهما على أنهما صلاة مستقلة عن الحج.
ثالثا: قالوا هي خاصة بالمأذون لهم بالنيابة:
فقد ذكر ابن عبد البر أن حديث الخثعمية التي أذن لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج عن أبيها، محمول عند مالك وأصحابه على الخصوصية (2)، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للسائل:"حجّ عنه، وليس لأحد بعده"(3).
ويجاب عن ذلك بأمور:
1 -
أن الخصوصية لا تثبت بغير دليل، فقد دل صريح لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم باختصاص أبي بُردة بن نيار (4) بجواز التضحية بعناق دون غيره، حيث قال له:"لا تجزىء عن أحد بعدك"(5). وكما خصّ خزيمة (6) دون غيره بكون شهادته بشهادة رجلين (7).
2 -
وكيف تتمّ دعوى الخصوصية، وقد صح في بقية الأحاديث إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لغيرها في الصوم عن الأب أو الأم أو الحج عنهما؟ كما أذن
(1) الموافقات (2/ 74).
(2)
تفسير القرطبي (4/ 152).
(3)
ضعَّف ابن حجر هذه الرواية في فتح الباري (4/ 69).
(4)
اسمه هانىء، وقيل الحارث بن عمرو، وقيل مالك بن هبيرة، خال البراء بن عازب، صحابي توفي عام (41 هـ). راجع:(تهذيب التهذيب 12/ 19)، (الكاشف 3/ 312).
(5)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود (تلخيص الحبير 4/ 139).
(6)
هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، صحابي جليل، من أشراف الأوس في الجاهية والإسلام، له في الصحيحين (38) حديثا، قتل بصفين سنة (37 هـ).
راجع: (تهذيب التهذيب 3/ 140)، (خلاصة تذهيب الفساد الكمال 1/ 289)، (الكاشف 1/ 279).
(7)
البخاري في صحيحه، انظر فتح الباري (6/ 22).
لأبي رزين العقيلي (1).
3 -
والرواية التي أوردوها دالة على الخصوصية ضعيفة كما حقق ذلك ابن حجر (2).
رابعا: ومنهم من تأول هذه الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا:
وذلك أنّه قال: سبيل الأنبياء -صلوات الله عليهم- ألا يمنعوا أحدا من فعل الخير، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه، من جهة كونه خيرا، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه، هكذا قال الشاطبي، وذكر قريبا منه ابن العربي، والقرطبي (3).
وهذا الذي قالوه كلام بعيد فكيف يُظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقر السائلين على خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجّوا، وصوموا، ويجزىء ذلك عن من فعلتموه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك. هذا ما لا يكون أبدا، ولا يظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وغفر الله لهم مقالتهم هذه.
خامسا: حملوا بعض هذه الأحاديث محملا بعيدا، فقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: "صام عنه وليه" محمول على ما تصحّ النيابة فيه، وهو الصدقة مجازا، لأنَّ القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره، وذلك في الصيام: الِإطعام، وفي الحج: النفقة عمّن يحج عنه، أو ما أشبه ذلك (4).
وهذا حمل بعيد، يدل على ضعفه إذنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث
(1) انظر الأحاديث الدالة على جواز النيابة التي سقناها.
(2)
فتح الباري (4/ 69).
(3)
الموافقات (2/ 174)، تفسير القرطبي (4/ 152)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 287، 288).
(4)
الموافقات (2/ 175).
الأخرى بالحجّ والصيام، وبقوله للملبّي عن شبرمة:"حجّ عن نفسك أولا، ثم حج عن شبرمة".
السادس: ردّوا هذه الأحاديث بدعوى أنها مخالفة لظاهر القرآن:
يقول القرطبي: "رأي مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن، فرجَّح ظاهر القرآن"، وقد رجَّح القرطبي ظاهر القرآن لأمرين، قال:"ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أنّ القول المذكور قول امرأة ظنَّت ظنًّا"، ثم أورد إشكالا على ما ذهب إليه، ولم يستطع الرد عليه ردًّا مجزئا، فقال:"لا يقال: قد أجابها الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤالها، ولو كان غلطا لبيَّنه لها، لأنَّا نقول: إنما أجابها عن قولها: أفأحجّ عنه؟ قال: حجيّ عنه (1) ". فأين الجواب عن الإشكال الذي أورده؟ ولقد صدق ابن حجر وبرَّ حسين قال معقبا على ما ذكره القرطبي: "وتعقّب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة"(2).
وما ذكره القرطبي ذكره الشاطبي بأجلى من عبارة القرطبي، قال:"هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أنّ خبر الواحد لا يعمل به إلاّ إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة". ثم بين أنَّ هذا الجواب عن الأحاديث هو الجواب القوي المرضيّ، فقال:"وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن"(3).
وفي الردّ نقول: إن هذا الذي ردّوا به الأحاديث ليس بحسن، فإن ما قالوه لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق، وفي حال إمكان التوفيق بين النصوص فلا يعدل عنه، وقد أمكن هنا كما سيأتي بيانه قريبا.
(1) فتح الباري (4/ 70).
(2)
الموافقات (2/ 175).
(3)
الموافقات (2/ 175).