الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة
(1)
إذا قصد المتعبد بالعبادة تجريد النفس بالعمل، والاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة وخوارق العادات، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذلك- فإنه ممّا ينافي الإخلاص، ويشوب صفاءه، لأن العابد على هذا النحو جعل العبادة وسيلة، لأمور لم تقرها الشريعة الِإسلامية، علما بأنَّ هذا النوع من المقاصد لا يقوي قصد التعبد والإخلاص بل يضعفه، لأن العابد بمثل هذا القصد إذا لم يحصل له مراده ضعف عن العمل، ورمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي وعد الله بها عباده المخلصين.
وقد روي أن بعض الناس سمع بالقول المأثور: "من أخلص لله أربعين صباحا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"(2) فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له بابها، فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال: هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله. ومما يدل على عدم جواز مثل هذا النوع من المقاصد أمور:
الأول: أنَّ الشارع لم يرد عنه شيء يجيز مثل هذا النوع من المقاصد، بل جاء عنه ما يدلُّ على خلاف ذلك، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف، لم يطلب بدركه، ولا حضَّ على الرسول إليه. وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا، ثم يصير إلى حالته الأولى؟ فنزلت: {يَسْألُونَكَ عَن اْلأهِلَّةِ قُلْ هِيَ
(1) راجع في هذه المسألة: الموافقات 2/ 298 - 302.
(2)
رواه أبو نعيم في الحلية مرفوعا، وسنده ضعيف، وهو عند أحمد في الزهد مرسل (انظر المقاصد الحسنة ص 395).
مَواقيتُ للِنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بأَنْ تَأتُوا البيوتَ مِنْ ظهُورِهَا .. } (1)(2) الآية، فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال، لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه.
الثاني: أنَّ كثيرا من العلماء يعدُّون مثل هذا القصد نوعا من الشرك يفسد الإخلاص، وقد مضى تحقيق هذه المسألة.
الثالث: أن هذا النوع من القصد إن أريد به تثبيت القلوب وزيادة طمأنينة النفوس- ففي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة إلاّ كما يأخذ الطائر من البحر إذا نقر منه نقرة. ولو نظر العاقل في أقل الآيات وأذل المخلوقات، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب، لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه، وقد حثنا الله إلى النظر والتفكر في مخلوقاته؛ قال تعالى:{أَو لَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكوتِ السمَوَاتِ وَاْلَأرْض وَمَا خَلَقَ الله منْ شَيءٍ} (3)، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (4)، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5). ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم، ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر
(1) سورة البقرة / 189.
(2)
قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت الآية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلة فأنزل الله الآية، وكذا روي عن عطاء، والضحاك وقتادة والسدي والربيع بن أنس. راجع: تفسير ابن كثير (1/ 398).
(3)
سورة الأعراف 185.
(4)
سورة الغاشية 17 - 20.
(5)
سورة ق 6 - 7.
فيه، ولا مأمور بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها، فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا، وإذا لم يكن مطلوبا لم يحسن أن يطلب.
الرابع: أنَّ أصل هذا التطلب الخاص فلسفي، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس، والاطلاع على العوالم التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ومن غيرهم، ولذلك نجدهم يقررون بطلب هذا المعنى رياضة خاصة، لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان، أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة، ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر، كما أنَّ ذكر التجريد والعوالم الروحانية، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم، وكفى بذلك حجة في أنَّه غير مطلوب.
الخامس: أنَّ طلب الِاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات، كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية، كالأمصار البعيدة، والبلاد القاصية، والمغيبات تحت أطباق الثرى، لأن الجميع من مصنوعات الله تعالى، فكما لا يصحّ أن يقال بجواز التعبد لله بقصد أن يطلع الكويتي على قطر وباكستان وأفغانستان .. وأقصى بلاد الصين، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات.
السادس: لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة وقواطع معترضة، تحول بين الإنسان ومقصوده، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها عباده، لينظر كيف يعملون، فإذا وازن الإنسان بين مصلحة الحصول على هذه الأشياء وبين مفسدة ما يعترض من صاحبها، كانت جهة العوارض أرجح، فيصير طلبها مرجوحا.
ونحن اليوم نعلم مدى رحمة الله بنا إذ لم يعط آذاننا القدرة على استماع كل ما يعجُّ به الكون من أصوات، وإلا فلو كانت آذاننا قادرة على استماع ما يستقبله