المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: الهروب من العبادة - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولتحديدُ مَوضُوع البَحث

- ‌تعريف القصد

- ‌تعريف النيّة

- ‌الاشتقاق اللغوي:

- ‌النيَّة في الاصطلاح

- ‌1 - تعريف النية بالعزم والقصد:

- ‌2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة:

- ‌3 - تعريف النيّة بالإِخلاص:

- ‌4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته:

- ‌النيّة شرعًا

- ‌موقع النية من العلم والعمل

- ‌جنس النيّة في الموجودات

- ‌هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده

- ‌التكليف

- ‌مفهوم العبادة وحدودها

- ‌أصل العبادة ومبناها

- ‌العبادة في مصطلح الفقهاء

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المبحث الثانيالأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

- ‌أولاً: الأدلة القرآنية:

- ‌ثانيًا: الأحاديث النبوية:

- ‌ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري:

- ‌رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:

- ‌خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها:

- ‌سابعًا: تأثير النية فى الأعمال:

- ‌اعتراضات

- ‌المبحث الثالثفَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

- ‌1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله:

- ‌2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات:

- ‌3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:

- ‌4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:

- ‌5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات:

- ‌عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه:

- ‌هذا الحديث من جوامع الكلم:

- ‌البداءة به في المهمات:

- ‌6 - شرفت النيات بموجدها:

- ‌7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها:

- ‌8 - النيّات تميز الأعمال:

- ‌9 - المحوِّل العجيب:

- ‌10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية:

- ‌11 - تربية على اليقظة:

- ‌النية أفضل من العمل:

- ‌الباب الأولالنيات وما يتعلق بها من أحكام

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمَحَلّ النِّية

- ‌مَحَلّ النِّيَّة

- ‌حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

- ‌مناقشة القفال:

- ‌مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

- ‌الجهر بالنيّة

- ‌التلفظ بها همسًا

- ‌هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب

- ‌القصد المجرد عن العمل

- ‌مراتب الإرادة

- ‌الإِرادة غير الجازمة

- ‌لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة

- ‌الإِرادة الجازمة

- ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

- ‌أدلّة القائلين بالمؤاخذة

- ‌الفصل الثانيوَقت النّية

- ‌وقت النية في الطهارة

- ‌وقت النيّة في الصلاة

- ‌القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام:

- ‌القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير:

- ‌القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير:

- ‌تأخير النية

- ‌وقت نية الزكاة

- ‌وقت نيّة الصوم

- ‌تقديم النية في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌1 - القضاء والكفارة:

- ‌2 - صوم رمضان:

- ‌الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:

- ‌أدلتهم:

- ‌النيّة لكلّ يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

- ‌الليل كله وقت للنية

- ‌3 - صوم النذر

- ‌4 - صوم النفل

- ‌المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌الفصل الثالثصفة النِّيَّة

- ‌تمهيد

- ‌صفة نيّة الطهارة

- ‌إذا نوى مطلق الطهارة:

- ‌إذا نوى الغسل أو الوضوء:

- ‌إذا نوى المتطهر رفع الحدث:

- ‌إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها:

- ‌إذا نوى ما تستحب له الطهارة:

- ‌إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له:

- ‌إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها:

- ‌النية للتيمم

- ‌صفة النيّة في العبادات الواجبة

- ‌صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة

- ‌صفة النية في الصوم

- ‌صفة النيّة في الصلاة

- ‌نية الجماعة

- ‌نيّة القضاء والأداء

- ‌نية الجمع

- ‌صفة النية في النوافل

- ‌الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

- ‌قول أعجب وأغرب

- ‌الفصل الرابعشروط النِّيَّة ومبطلاتها

- ‌الشرط الأولأهلية من صدرت عنه النية

- ‌الوضوء والغسل والتيمم من الكافر

- ‌الزكاة من أهل الذمة

- ‌غسل الزوجة الكتابية

- ‌القربات التي أداها المسلم حال كفره

- ‌العبادة من غير المميز

- ‌حج الصغير الذي لا يميز

- ‌نيّة الصبي المميز

- ‌الشرط الثانيالجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

- ‌الشك

- ‌الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي

- ‌اختلطت ثياب طاهرة بنجسة

- ‌الشك في الصلاة التي فاتته

- ‌صيام يوم الشك

- ‌صيام الأسير

- ‌الشك في أصل النية

- ‌التردد في العبادة

- ‌تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما

- ‌الشرط الثالث‌‌استصحاب حكم النية

- ‌استصحاب حكم النية

- ‌رفض النية

- ‌رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌رفض نية العبادة في أثنائها

- ‌قلب النية وتغييرها

- ‌أقسام النيّة التي قلبت

- ‌الأول: نفل فرض إلى فرض:

- ‌الثاني: نقل فرض إلى نفل:

- ‌الثالث: نقل نفل إلى فرض:

- ‌الرابع: نقل نفل إلى نفل:

- ‌تغيير النيَّة

- ‌المنفرد يصبح إماما

- ‌الإمام يصبح مأموما

- ‌المأموم يصبح منفردا

- ‌المنفرد يتحوّل إلى مأموم

- ‌تغيير نية القصر إلى إتمام

- ‌اختلاف نيّة الإمام والمأموم

- ‌الأدلة النقلية

- ‌الاستدلال بالقياس:

- ‌الشرط الرابععدم التشريك في النيّة

- ‌الشرط الخامسأن تتعلق النية بمكتسب للناوي

- ‌الشرط السادسقصد العبادة دفعة واحدة

- ‌الشرط السابعمقارنة النيّة للمنوي

- ‌الشرط الثامنالعلم بصفات المنوي

- ‌الغلط في تعيين المنوي

- ‌الفَصل الخامسالنيَابة في النيَّة

- ‌تمهيد:

- ‌أدلّة الذين منعوا مطلقا

- ‌أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:

- ‌ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات:

- ‌ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

- ‌المجيزون مطلقا

- ‌موقفهم من حجج المانعين:

- ‌أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال:

- ‌موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:

- ‌موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

- ‌تحرير محلّ النزاع

- ‌أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها:

- ‌ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم:

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌حجج المانعين:

- ‌حجج المجيزين:

- ‌النظر في هذه الأدلة:

- ‌مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لَا يفتقِر إليَهَا

- ‌إزالة النجاسات

- ‌الأحداث التي تنقض الطهارة

- ‌النيّة في الوضوء والغسل

- ‌أدلة القائلين بعدم الوجوب

- ‌1 - أن الماء مطهر بطبعه:

- ‌2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية:

- ‌3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه:

- ‌4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية:

- ‌5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة:

- ‌6 - إطلاق النصوص:

- ‌7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة:

- ‌مناقشة الحجج التي أوردوها

- ‌أدلة الموجبين

- ‌أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل:

- ‌ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء:

- ‌ثالثا: القياس:

- ‌النيّة في التيمم

- ‌النيّة في الصلاة

- ‌النيّة في الزكاة

- ‌إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة:

- ‌صوم رمضان

- ‌النيّة في الحجّ والعمرة

- ‌النية في الاعتكاف

- ‌النية في الكفارات

- ‌النيّة لأعمال القلب

- ‌النيّة في الأقوال

- ‌السنة في التروك

- ‌حكم النيّة في العبادات

- ‌(ركن، أم شرط)

- ‌الباب الثانيالإخلاص

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

- ‌لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام

- ‌الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

- ‌الفصل الأولالغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

- ‌الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

- ‌شدة الإخلاص وصعوبته

- ‌لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

- ‌1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:

- ‌2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد:

- ‌3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه:

- ‌4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:

- ‌5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم:

- ‌حكم الإِخلاص في العبادات

- ‌الفصل الثانيمفهومات خاطئة للإخلاص

- ‌1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة

- ‌هل يمكن العمل بدون إرادة:

- ‌الفناء الحق:

- ‌2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

- ‌محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:

- ‌سرّ المسألة:

- ‌3 - قصد النعيم الأخروي

- ‌تنوّع المقاصد الخيّرة

- ‌الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

- ‌أولاً: اتباع الهوى

- ‌تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:

- ‌علاج الهوى

- ‌1 - تحويل الاتجاه:

- ‌2 - تقوية الإرادة:

- ‌3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا:

- ‌4 - محاسبة العبد نفسه:

- ‌ثانيًا: الرياء

- ‌ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين:

- ‌تعريف الرياء

- ‌الرياء لغة:

- ‌الرياء شرعًا:

- ‌الرياء والسمعة:

- ‌الرياء والعجب:

- ‌أسباب الرياء

- ‌الأمور التي يراءى بها

- ‌حكم العمل المراءى به

- ‌مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب:

- ‌شبهة وجوابها:

- ‌تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:

- ‌الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

- ‌الرياء بأوصاف العبادة

- ‌خفاء الرياء وتلونه

- ‌مزلق خطر

- ‌ترك العمل خوف الرياء

- ‌1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته:

- ‌2 - معرفة الرياء والتحرز منه:

- ‌3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:

- ‌4 - النظر في عواقبه الأخروية:

- ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

- ‌علامات القائم بالإِخلاص

- ‌ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

- ‌اعتراضات

- ‌رابعا: الهروب من العبادة

- ‌الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

- ‌الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

- ‌تأثير النيّة في المباحات

- ‌التوفيق بين الرأيين:

- ‌استحضار النية عند المباح:

- ‌تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة

- ‌الفرقة الأولى:

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثالثة:

- ‌التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

- ‌خاتمة القول

- ‌مُلحَقإيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات

- ‌تمهيد:

- ‌الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث

- ‌سبب الحديث

- ‌إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

- ‌كتب السنة التي أخرجته

- ‌هل أخرجه مالك في الموطأ:

- ‌طرق الحديث

- ‌مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

- ‌إشكالات أوردت على الحديث

- ‌1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا:

- ‌2 - أنّه حديث شاذ:

- ‌3 - أن فيه انقطاعا:

- ‌4 - أنه ليس حديثا فردًا:

- ‌5 - أنه متواتر:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌رابعا: الهروب من العبادة

‌رابعا: الهروب من العبادة

القصد من العبادة هو الخضوع لله وحده بإخلاص التوجه إليه والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، والعادات حق خالص لله دون سواه، والواجبات المفروضة من العبادات ليس للمكلف خيار في إسقاطها عن نفسه.

وبعض الناس يتوجه قصده ونيته إلى الهروب من العبادة بنوع من أنواع الخداع والتحايل، بحيث يكون عمله في ظاهر الأمر مشروعا لا مؤاخذة عليه، وهو يقصد في باطنه التهرب من العبادة وإسقاطها تكاسلا عن الفعل، وضنًا بالجهد والمال، وطلبا للراحة، واتباعا للهوى.

وقد ضرب العلماء أمثلة كثيرة لهذا النوع، ومن أمثلته أن يدخل وقت الصلاة عليه في الحضر، فيشرب الخمر، أو يشرب دواء يفقده عقله مدة من الزمان، أو يرمي نفسه من شاهق، أو يحدث سفرا، كل ذلك ليسقط الصلاة عنه كليَّا أو جزئيَّا بالصلاة من قعود، أو بالقصر في السفر.

ومثلوا له بالذي يظله شهر رمضان فيحدث سفرا ليأكل ولا يصوم أو يريد أن يجامع زوجه في رمضان فيأكل أولا، ثم يجامع كي يسقط الكفارة.

ويدخل في هذا الباب من قصد الفرار من وجوب الزكاة بهبة العالم أو إتلافه، أو جمع متفرقه، أو تفريق مجتمعه، أو بيع المال قبل الحول.

وكل هذا من المقاصد الخبيثة، والأدلة على ذلك كثيرة منها:

1 -

أن العبادات الواجبة حق لله تعالي، لا يجوز للعبد أن يتسبب في إسقاطها بحال من الأحوال، ومن فعل ذلك فإن العبادة تبقى في ذمته.

2 -

العبادات شرعت للتقرب بها إلى الله تعالى، ولمصالح تعود على العباد في دنياهم وأخراهم، وهذه المصالح بينها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، واستنبطها العلماء من النصوص، فمن رام مصالح غير معتبرة شرعا فإن قصده مخالف لمقصود الشارع من وضع العبادة.

فالزكاة -مثلا- وضعت كي يتقرب العباد بها إلى ربهم، فيحصلون على رضوانه

ص: 481

في الدنيا والآخرة، وشرعت لتزكية النفس، ورفع رذيلة الشح، وفي إخراجها مصلحة للفقير يسد حاجته، وإحياء للنفوس المعرضة للتلف، فمن وهب ماله في آخر الحول هروبا من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه، فهذا العمل تقوية لوصف الشحِّ وإمداد له، ورفع لمصلحة إرفاق المساكين، فمعلوم أن صورة الهبة ليست هي الهبة التي ندب إليها الشرع، لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه غنيا كان أو فقيرا، وجلب لمودته ومؤالفته، وهذه الهبة على الضد من ذلك، ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعا لرذيلة الشحّ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة، فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا، والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي.

3 -

هذا الذي هو موضوع البحث نوع من أنواع التحايل المحرم (1)، وقد ذمّ الله

(1) الحيلة فعله من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهي من ذوات الواو، وأصلها:(حولة)، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد، قال ابن سيده: الحول، والحيل، والتحيل: كل ذلك الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف، قال: والحول، والحيل، والحيلات، جمع حيلة، ورجل حول، وحولة، وحول، وحوالي، وحولول، وحولي: شديد الاحتيال (لسان العرب 1/ 759).

فالحيلة: التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به: حيلة يتوصل بها إليه.

والحيلة لا تذم مطلقا، ولا تمدح مطلقا، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له، إلا بنوع من الذكاء والفطنة.

والحيل ثلاثة أنواع:

الأول: وهو الذي ينطبق على موضوع البحث -محرم: وهو الذي يتوصل به إلى إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، وهذا النوع قد اتفق السلف على ذمه وذم أهله.

الثاني: ما يكون قربة وطاعة، وهو الذي يتوصل به إلى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من الظالم، وهذا النوع محمود مثاب فاعله.

الثالث: مباح جائز لا حرج على فاعله، ولا على تاركه، ويرجح فعله على تركه، أو العكس تبعا للمصلحة.

وقد عرَّف الشاطبي النوع الأول، فقال: "التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر، أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له

، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالا في الظاهر، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحايلا (الموافقات 2/ 280).

ص: 482

أهله، وجاءت النصوص بلعن أمثالهم، وتوعدت من فعل مثل هذا بالعقوبة الدنيوية والأخروية.

فمن ذلك لعن الله اليهود الذين اعتدوا في السبت بالصيد فيه بنوع من أنواع التحايل، وقد ذكرهم الله في أكثر من سورة، ففي سورة النساء قال:{أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولَا} (1). وفي سورة البقرة قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتمُ الِّذِينَ أعْتَدَوْا منْكُمْ فِي السبت فَقلْنا لَهُمْ كونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (2)، وفي سورة الأعراف أطال في شرح قصتهم فقال:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (3).

ذكر ابن كثير عن ابن عباس وغيره من أئمة التفسير "أنَّ أصحاب تلك المدينة احتالوا على الصيد في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجرى معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها، فعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة في يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها فغضب الله عليهم، ولعنهم، لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظافرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة

" (4).

(1) سورة النساء /47.

(2)

سورة البقرة/ 65.

(3)

سورة الأعراف/ 163 - 166.

(4)

البداية والنهاية 2/ 133.

ص: 483

وفعل اليهود أمرًا قريبًا من هذا أيضًا، فقد حرّم الله عليهم الشحوم، فتأوّلوا ذلك تأولات فاسدة، فزعموا أن المحرّم أكله وأن المحرم منه الجامد دون المذاب، فأذابوه وباعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، روى ابن عباس قال:"بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانا باع خمرا، فقال: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها (1) فباعوها (2)؟! ".

وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من سلوك الطريق الذي سلكته يهود فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"(3).

وحدثنا الله في سورة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (4) بالعذاب الذي أحلَّه بأهل الجنة، الذين أرادوا أن يحتالوا في منع المساكين من أخذ شيء من الثمر، وقد كان أبوهم الصالح يجذّ الثمر ويصرمه في النهار، فيأتي المساكين، فينالون شيئًا من الثمار، فاحتالوا على منع المساكين بأن اتفقوا على أن يجذوها في الصباح الباكر، فأرسل الله على جنتهم طائفا، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم.

وقد احتجَّ البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بأحاديث كثيرة على إبطال الحيل منها:

حديث عمر بن الخطاب أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيّها الناس، إنّما الأعمال بالنية، وإنّما لامرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها،

(1) جملوها: أذابوها.

(2)

متفق عليه (مشكاة المصابيح 2/ 75).

(3)

رواه الحافظ ابن بطة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. قال ابن تيمية (إبطال التحايل ص 24).

سائر رجال الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى وصفهم. وقال ابن كثير. (التفسير 3/ 238)، بعد أن ساق إسناد الحديث محمد بن أحمد بن سلام ذكره الخطيب في تاريخه، ووثقة العجلي، وباقي رجاله ثقات مشهورون. ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد. وقال ابن القيم: وهذا إسناد يصحح بمثله الترمذي. إغاثة اللهفان (1/ 348).

(4)

سورة القلم/ 1.

ص: 484

فهجرته إلى ما هاجر إليه" (1).

وهذا الحديث قال فيه القرافي: "فيه حجة لمالك ومن وافقه في إسقاط الحيل، كمن باع ماله قبل الحول فرارا من وجوب الزكاة، وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها، وقد نقل النسفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المسلمين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق"(2).

ومن الأحاديث التي أوردها البخاري محتجا بها على إبطال الحيل: حديث أنس أن أبا بكر كتب له فريضة الزكاة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"(3).

(1) انظر تخريجه في ملحق الكتاب.

(2)

منتهي الآمال.

(3)

فتح الباري 12/ 330.

ص: 485