الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: الهروب من العبادة
القصد من العبادة هو الخضوع لله وحده بإخلاص التوجه إليه والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، والعادات حق خالص لله دون سواه، والواجبات المفروضة من العبادات ليس للمكلف خيار في إسقاطها عن نفسه.
وبعض الناس يتوجه قصده ونيته إلى الهروب من العبادة بنوع من أنواع الخداع والتحايل، بحيث يكون عمله في ظاهر الأمر مشروعا لا مؤاخذة عليه، وهو يقصد في باطنه التهرب من العبادة وإسقاطها تكاسلا عن الفعل، وضنًا بالجهد والمال، وطلبا للراحة، واتباعا للهوى.
وقد ضرب العلماء أمثلة كثيرة لهذا النوع، ومن أمثلته أن يدخل وقت الصلاة عليه في الحضر، فيشرب الخمر، أو يشرب دواء يفقده عقله مدة من الزمان، أو يرمي نفسه من شاهق، أو يحدث سفرا، كل ذلك ليسقط الصلاة عنه كليَّا أو جزئيَّا بالصلاة من قعود، أو بالقصر في السفر.
ومثلوا له بالذي يظله شهر رمضان فيحدث سفرا ليأكل ولا يصوم أو يريد أن يجامع زوجه في رمضان فيأكل أولا، ثم يجامع كي يسقط الكفارة.
ويدخل في هذا الباب من قصد الفرار من وجوب الزكاة بهبة العالم أو إتلافه، أو جمع متفرقه، أو تفريق مجتمعه، أو بيع المال قبل الحول.
وكل هذا من المقاصد الخبيثة، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1 -
أن العبادات الواجبة حق لله تعالي، لا يجوز للعبد أن يتسبب في إسقاطها بحال من الأحوال، ومن فعل ذلك فإن العبادة تبقى في ذمته.
2 -
العبادات شرعت للتقرب بها إلى الله تعالى، ولمصالح تعود على العباد في دنياهم وأخراهم، وهذه المصالح بينها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، واستنبطها العلماء من النصوص، فمن رام مصالح غير معتبرة شرعا فإن قصده مخالف لمقصود الشارع من وضع العبادة.
فالزكاة -مثلا- وضعت كي يتقرب العباد بها إلى ربهم، فيحصلون على رضوانه
في الدنيا والآخرة، وشرعت لتزكية النفس، ورفع رذيلة الشح، وفي إخراجها مصلحة للفقير يسد حاجته، وإحياء للنفوس المعرضة للتلف، فمن وهب ماله في آخر الحول هروبا من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه، فهذا العمل تقوية لوصف الشحِّ وإمداد له، ورفع لمصلحة إرفاق المساكين، فمعلوم أن صورة الهبة ليست هي الهبة التي ندب إليها الشرع، لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه غنيا كان أو فقيرا، وجلب لمودته ومؤالفته، وهذه الهبة على الضد من ذلك، ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعا لرذيلة الشحّ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة، فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا، والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي.
3 -
هذا الذي هو موضوع البحث نوع من أنواع التحايل المحرم (1)، وقد ذمّ الله
(1) الحيلة فعله من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهي من ذوات الواو، وأصلها:(حولة)، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد، قال ابن سيده: الحول، والحيل، والتحيل: كل ذلك الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف، قال: والحول، والحيل، والحيلات، جمع حيلة، ورجل حول، وحولة، وحول، وحوالي، وحولول، وحولي: شديد الاحتيال (لسان العرب 1/ 759).
فالحيلة: التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به: حيلة يتوصل بها إليه.
والحيلة لا تذم مطلقا، ولا تمدح مطلقا، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له، إلا بنوع من الذكاء والفطنة.
والحيل ثلاثة أنواع:
الأول: وهو الذي ينطبق على موضوع البحث -محرم: وهو الذي يتوصل به إلى إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، وهذا النوع قد اتفق السلف على ذمه وذم أهله.
الثاني: ما يكون قربة وطاعة، وهو الذي يتوصل به إلى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من الظالم، وهذا النوع محمود مثاب فاعله.
الثالث: مباح جائز لا حرج على فاعله، ولا على تاركه، ويرجح فعله على تركه، أو العكس تبعا للمصلحة.
وقد عرَّف الشاطبي النوع الأول، فقال: "التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر، أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له
…
، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالا في الظاهر، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحايلا (الموافقات 2/ 280).
أهله، وجاءت النصوص بلعن أمثالهم، وتوعدت من فعل مثل هذا بالعقوبة الدنيوية والأخروية.
فمن ذلك لعن الله اليهود الذين اعتدوا في السبت بالصيد فيه بنوع من أنواع التحايل، وقد ذكرهم الله في أكثر من سورة، ففي سورة النساء قال:{أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولَا} (1). وفي سورة البقرة قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتمُ الِّذِينَ أعْتَدَوْا منْكُمْ فِي السبت فَقلْنا لَهُمْ كونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (2)، وفي سورة الأعراف أطال في شرح قصتهم فقال:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (3).
ذكر ابن كثير عن ابن عباس وغيره من أئمة التفسير "أنَّ أصحاب تلك المدينة احتالوا على الصيد في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجرى معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها، فعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة في يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها فغضب الله عليهم، ولعنهم، لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظافرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة
…
" (4).
(1) سورة النساء /47.
(2)
سورة البقرة/ 65.
(3)
سورة الأعراف/ 163 - 166.
(4)
البداية والنهاية 2/ 133.
وفعل اليهود أمرًا قريبًا من هذا أيضًا، فقد حرّم الله عليهم الشحوم، فتأوّلوا ذلك تأولات فاسدة، فزعموا أن المحرّم أكله وأن المحرم منه الجامد دون المذاب، فأذابوه وباعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، روى ابن عباس قال:"بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانا باع خمرا، فقال: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها (1) فباعوها (2)؟! ".
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من سلوك الطريق الذي سلكته يهود فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"(3).
وحدثنا الله في سورة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (4) بالعذاب الذي أحلَّه بأهل الجنة، الذين أرادوا أن يحتالوا في منع المساكين من أخذ شيء من الثمر، وقد كان أبوهم الصالح يجذّ الثمر ويصرمه في النهار، فيأتي المساكين، فينالون شيئًا من الثمار، فاحتالوا على منع المساكين بأن اتفقوا على أن يجذوها في الصباح الباكر، فأرسل الله على جنتهم طائفا، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم.
وقد احتجَّ البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بأحاديث كثيرة على إبطال الحيل منها:
حديث عمر بن الخطاب أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيّها الناس، إنّما الأعمال بالنية، وإنّما لامرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها،
(1) جملوها: أذابوها.
(2)
متفق عليه (مشكاة المصابيح 2/ 75).
(3)
رواه الحافظ ابن بطة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. قال ابن تيمية (إبطال التحايل ص 24).
سائر رجال الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى وصفهم. وقال ابن كثير. (التفسير 3/ 238)، بعد أن ساق إسناد الحديث محمد بن أحمد بن سلام ذكره الخطيب في تاريخه، ووثقة العجلي، وباقي رجاله ثقات مشهورون. ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد. وقال ابن القيم: وهذا إسناد يصحح بمثله الترمذي. إغاثة اللهفان (1/ 348).
(4)
سورة القلم/ 1.
فهجرته إلى ما هاجر إليه" (1).
وهذا الحديث قال فيه القرافي: "فيه حجة لمالك ومن وافقه في إسقاط الحيل، كمن باع ماله قبل الحول فرارا من وجوب الزكاة، وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها، وقد نقل النسفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المسلمين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق"(2).
ومن الأحاديث التي أوردها البخاري محتجا بها على إبطال الحيل: حديث أنس أن أبا بكر كتب له فريضة الزكاة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"(3).
(1) انظر تخريجه في ملحق الكتاب.
(2)
منتهي الآمال.
(3)
فتح الباري 12/ 330.