الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يدل على بطلان قياسه أنَّ الأذان والدفع من مزدلفة "يجوزان بعد الفجر بخلاف نيّة الصوم، ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه، واشتراط النية بمعنى الإيجاب والحتم وفوات الصوم بفواتها، وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز، ولأن معهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر، والنية بخلافه".
3 - صوم النذر
يجب تبييت النية من الليل في صوم النذر عند جماهير العلماء، لأنَّ النذر كالواجب، وبذلك قطع جمهور فقهاء الشافعية، وقد حكى بعضهم فيه وجهين بناء على أنّه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه ومندوبه؟ إن قلنا كواجب لم يصح بنيّة من النهار وإلا فيصح كالنفل.
وجمهور فقهاء الشافعية لم يجروا الخلاف في هذه المسألة في الصوم المنذور كما أجروها في بقية المسائل، وذلك لأن الحديث هنا عام في اشراط تبييت النيّة للصوم، خص منه النفل بدليل، وبقي النذر على عمومه (1).
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن النذر المعين يجوز بنيّة من النهار، لأنه كصوم رمضان، لأن الوقت متعين لصومه كما سبق.
أمّا النذر المطلق فلا بدَّ له من نيّة من الليل، وذلك لأنَّ الوقت غير متعين لصيامه (2)، وقد سبق أن بينا أنَّ هذا الذي اعتمدوه في التفرقة هنا، وفي غير هذا الموضع، لا يصحُّ أن يكون مفرقا.
4 - صوم النفل
الإمام مالك -رحمه الله تعالى- لا يجيز صوم النفل إلا بنية من الليل كالفرض،
(1) المجموع (6/ 332).
(2)
بدائع الصنائع (2/ 85)، تحفة الفقهاء (1/ 534).
وقال بهذا القول غير مالك عبد الله بن عمر، وزفر من الأحناف، وداود الظاهري، وتابعه ابن حزم، وبه قال المزني (1) من الشافعية، ونقل ابن المنذر عن مالك أنه استثنى من يسرد الصوم، فصحح نيّته من النهار (2)، وحجة هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل".
وذهب جماهير العلماء إلى أنَّ صوم النفل يصح بنية من النهار، وبذلك قال علي بن أبي طالب (3)، وابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وطلحة، وابن عباس، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، وسعيد بن المسيب (4)، وسعيد بن جبير، والنخعي، وآخرون (5). وقال ابن حزم:"قال بهذا جمهور السلف"(6).
واحتج هؤلاء بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "هل عندكم شيء؟ " قلنا: لا. قال: "فإنّي إذن صائم" (7) وفي رواية قال: "إذن أصوم" (8).
وروى البيهقي والشافعي بالإسناد الصحيح عن حذيفة أنه بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس (9).
(1) هو إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر، وكان زاهدا عالما قوي الحجة، من كتبه (الجامع الكبير)، و (الجامع الصغير)، نسبته إلى مزينة من مضر. ولد سنة (175 هـ)، وتوفي سنة (264 هـ).
راجع: (وفيات الأعيان 1/ 217)، (الأعلام (1/ 327).
(2)
المجموع (6/ 339).
(3)
هو علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، توفي شهيدا سنة (40 هـ).
راجع: (خلاصة تهذيب الكمال 2/ 250)، (الكاشف 2/ 287)، (طبقات الحفاظ ص 4).
(4)
هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد سنة (13 هـ)، وتوفي سنة (94 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 390)، (طبقات الحفاظ ص 17)، (الكاشف 1/ 372).
(5)
المجموع (6/ 399)، وانظر المغني (3/ 196)، والمحلى (6/ 172).
(6)
المحلى (6/ 172 - 173).
(7)
رواه مسلم (مشكاة المصابيح 1/ 643).
(8)
رواه البيهقي.
(9)
المجموع (6/ 339).
قالوا: حديث تبييت النية عام، فنخصه بما ذكرناه جمعا بين الأحاديث.
ومع أن ابن حزم روى حديث عائشة السابق، وروى عن عشرة من الصحابة أنهم كانوا يعزمون على صوم النفل في النَّهار -إلاّ أنّه لم يقل بجواز صيام النفل بنية من النهار، قال:"لأنّه ليس في الحديث أنَّه عليه السلام لم يكن نوى الصيام من الليل، ولا أنَّه عليه السلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم بعد ذلك، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به، لكن فيه أنَّه عليه السلام كان يصبح متطوعا صائما ثم يفطر، وهذا مباح عندنا .... ، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا، وكان قد صحَّ عنه عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيته من الليل "، لم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب، ولو أنه عليه السلام أصبح مفطرا ثمَّ نوى الصوم نهارا لبينه"(1).
وتابع الصنعانيُّ من المتأخرين ابنَ حزم فيما ذهب إليه، فبعد أن ساق حديث عائشة الذي احتج به الجمهور قال:"فالجواب عنه أنّه أعمّ من أن يكون بيَّت الصوم أو لا، فيحمل على التبييت، لأنّ المحتمل يردّ إلى العامّ ونحوه"(2).
ثم قال: "والأصل عموم حديث التبييت، وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر، ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعين البقاء عليهما"(3).
والجواب على ما ذكراه:
أولا: أنّ ابن حزم تناقض هنا تناقضا بينا، فهو يرى "أن من نوى في حال صيامه أنّه تارك للصوم عامدا بذلك ذاكرا لصومه، إلاّ أنه لم يأكل، ولم يشرب، ولا وطىء، ولا فعل فعلا ينقض الصوم، فإن صومه قد بطل وأنّه أفطر"(4).
ووجه التناقض أنّه يرى أن من نوى قطع الصوم وتركه فإن صومه يبطل،
(1) المحلّى (6/ 172 - 173).
(2)
سبل السلام (2/ 154).
(3)
المصدر السابق.
(4)
إحكام الأحكام (المجلد الثاني 711).