الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:
لقد قاوم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاتجاه في أفضل صوره وأعلى مراتبه، فقد حاول بعض الصحابة أن يتبتل، وآخرون حاولوا الهروب إلى الجبال كي يعبدوا الله، ولكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ذلك رفضًا كليًّا، وعنّف الذين أرادوه، وبيّن لهم ما فيه من تضييع لما هو أفضل منه، وبين أنّه مناف لسنته وطريقته، وقد جمع ابن الأثير (1) هذه الأحاديث تحت باب:"الاقتصاد والاقتصار في الأعمال"، وسأسوق طرفا منها يتضح به المقصود إن شاء الله تعالى.
فقد ذكر أنَّ البخاريَّ ومسلما رويا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه "جاء ثلاثة رهْطٍ (2) إِلى بيوتِ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عِبادة النبِي صلى الله عليه وسلم فَلَما أخبروا، كَأَنهم تقالُّوها (3). قالوا: فأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"أَنْتُمْ الذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَالله إِنّي لَأخشاكمْ لله، وأَتْقَاكمْ له، وَلَكِني أَصُومُ وَأفْطِرُ، وَأصلي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوّج النسَاءَ، فمَنْ رَغِبَ عِنْ سنتي فلَيسَ مِنّي"(4).
ونقل عن أبي داود في سننه أنه أخرج عن عائشة قالت: "بعث رسول الله -
(1) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، المحدث اللغوي الأصولي ولد فى جزيرة ابن عمر سنة (544 هـ)، ونشأ بها، ثم انتقل إلي الموصل وتوفي بها سنة (606 هـ)، من كتبه المطبوعة (جامع الأصول في أحاديث الرسول).
راجع: (وفيات الأعيان 1/ 441)، (بغية الوعاة 2/ 274)، (شذرات الذهب 5/ 22).
(2)
الرَّهط: ما دون العشرة من الرحال لا يكون فيهم امرأة (مختار الصحاح).
(3)
تقالُّوها: التقال: تفاعل من القلة، كأنهم استقلّوا ذلك لأنفسهم من الفعل، فأرادوا أن يكثروا منه.
(4)
جامع الأصول 1/ 200.
صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن مظعون (1): أرَغْبةً عَنْ سنَّتِي؟ فَقَالَ: لا وَالله يَا رَسولَ الله، ولَكِنْ سنَّتَكَ أَطْلُب، قَالَ: فإنِّي أَنَامُ وَأصَلِّي، وَأَصوم وَأفْطِر، وَأَنْكَحُ النسَاءَ، فَاَتَّقِ الله يا عُثْمَانُ، فَإِن لَأهْلِكَ عَليْكَ حقًا، وإِن لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ" (2).
وأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو بن العاص تشدده في العبادة، فقد أخبر الرسول -صلى لله عليه وسلم- أن عبد الله يقول:"والله لأصومنَّ النَّهار، ولأقومن الليل ما عشت" فأنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته، وقال له:"فَإنَّك لَا تسْتطيع ذَلِكَ، فَصمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ" وأرشده إلى طريقة معينة في الصيام والقيام. والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (3).
وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من أن تسلك سبيل الأمم من قبلها فقال: "لَا تُشَدِّدوا عَلَى أَنْفُسِكمْ، فيشدَّدُ عَلَيْكمْ، وكان قَوما شددوا عَلَى أَنْفسِهِمْ، فشُدِّدَ عَلَيْهِم، فَتِلْكَ بَقَايَاهمْ فِي الصَّوامعِ وَالدّيَارِ، رَهبَانيةً ابْتَدعُوهَا مَا كَتَبْناهَا عَلَيْهمْ" رواه أبو داود (4).
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته أن هذا منهج خاطىء، وأن السبيل الذي ينجي عبد الله هو القيام بهذا الدّين، والالتزام بتعاليمه، فيما يتعلق بحقوق الله أو النفس أو الأهل
…
وليست القضية التي جاء بها الإسلام هي الهروب من الحياة كي ننال الجنّة والنعيم الأخروي، الإسلام يريدنا أن نسخّر الحياة باسم الإسلام وبنهجه، يريد الإنسان المسلم أن يكون طاقة قوية تندفع إلى الحركة
(1) هو عثمان بن مظعون بن حبيب الجمحي، صحابي متقدم الإسلام، من حكماء العرب في الجاهلية، حرم الخمر على نفسه قبل أن يأتي الإسلام، أول من مات بالمدينة من المهاجرين وذلك في السنة الثانية من الهجرة.
راجع: (الاستيعاب 4/ 1053)، (الأعلام 4/ 378).
(2)
جامع الأصول 1/ 202.
(3)
جامع الأصول1/ 203.
(4)
جامع الأصول (1/ 216)، وفي الكتاب أحاديث كثيرة.