الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الضابط لمقاصد المكلفين
وقبل أن ننهي الكلام في هذا الموضوع أحب أن يكون عندنا ضابط نستطيع به أن نتعرف على المصالح التي يجوز للمكلف قصدها من وراء الأمور التي يتعبد بها، والمصالح التي لا يجوز له قصدها.
الضابط الذي ارتضاه الشاطبي هو أن ينظر العبد في مقاصد الشارع ويجعل المكلف قصده محكوما بمقاصد الشارع، فالمقاصد الموافقة لقصد الشارع مقاصد صحيحة، والمقاصد المخالفة لمقاصد الشارع من التكالف غير صحيحة.
يقول الشاطبي في هذا: "الشريعة موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وألا يقصد خلاف ما قصده الشارع"(1)، وعلَّل مذهبه بقوله:"لأنَّ المكلّف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة، هذا محصول العبادة، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة"(2).
واستدلَّ على ما ذهب إليها "بأنَّ الشارع قصد المحافظة على الضروريات، وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد فلا بدَّ أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات".
وانتهى إلى القول بأن الإنسان خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعه. والمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه يجري في أحكامه
(1) الموافقات 2/ 243.
(2)
المصدر السابق.
ومقاصده مجاريها (1).
ونرى أن هذا الضابط مع جودته يحسن أن يعدل بحيث يصبح على النحو التالي: يقصد المكلف من عمله بالتكاليف الشرعية المقاصد التي وجه الله عباده إليها وارتضاها لهم، فالله سبحانه وتعالى يشرع لعباده الأعمال التي تضمنها دينه، وبين لهم المقاصد التي ينبغي أن يتوجهوا إليها ولعلنا لسنا بمغالين إذا قلنا: إنَّ عناية الإِسلام بإيضاح المقاصد أعظم من عنايته بإيضاح الأعمال.
والضابط الذي ارتضيناه سهل ميسور، يستطيع الناس إدراكه بيسر وسهولة، بينما الضابط الذي قرره الشاطبي لا يستطيع تبينه إلاّ الراسخون في العلم، والشريعة -كما يقرر الشاطبي نفسه- شريعة عامة جاءت للناس كلِّهم، وهي تراعي القدر المشترك بينهم.
ونستطيع أن نقول: إن تعديل هذا الضابط يخلصنا من إشكالات ترد على الضابط الذي وضعه الشاطبي، فالشارع قد يقصد من التكاليف أمورا، ولا يريد من المكلف قصدها، فالشارع قصد من تكليف العباد اختبارهم وابتلاءهم، ولم يكلفنا بأن نقصد ذلك، وقد بحث الشاطبي في أنَّ أمر الشارع بالأسباب لا يعني أمرهم بالمسببات، مع تقريره بأن المسببات مقصودة للشارع من تشريعه الأسباب (2).
ولو نهج هذا النهج ما احتاج إلى تلك الصفحات الطويلة التي أوضح فيها المسألة وبينها.
ولو جارينا الشاطبي فيما ذهب إليه في مباحثه فإننا نرى الأوفق بنا في مبحثنا هذا أن نعدل عن مجاراته، لأن الأوفق بمن ينظر إلى المقاصد من الجانب التعبدي المقرب إلى الله، سواء في العبادات أو في الأمور العادية التي
(1) الموافقات2/ 243.
(2)
الموافقات 1/ 126 - 127.
يقصد التقرب بها - أن يقصد تلك الغاية المنصوبة للعامل بدون نظر إلى المصالح التي تضمنتها العبادة، وهذا أمر ارتضاه الشاطبي وأطال التدليل عليه، فالنظر دائما إلى العمل ابتغاء مرضاة الله وطلبا لثوابه، أقرب إلى الإخلاص من ذلك الذي ينظر إلى المصالح التي تتضمنها التكاليف والعمل على وفقها.