الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب
لم يخالف أحد من العلماء في أن التلفظ بالنيّة لا يجزىء العابد إن لم تحصل النيّة في القلب إلاّ القفال (1) من الشافعية، فقد قال بإجزائها في الزكاة، ونقل الصيدلاني والغزالي وإمام الحرمين عن الشافعي أنه يقول بذلك (2).
مناقشة القفال:
والتلفظ بالنيّة له مع نيّة القلب ثلاث صور:
الأولى: أن يتلفظ بلسانه مع كونه قاصدا لذلك في قلبه، وهذه الحالة لا خلاف عند العلماء في إجزائها، وإن حصل خلاف حول استحباب التلفظ، أو عدم استحبابه، أو كراهيته، كما سيأتي بيانه.
الثانية: أنَّ يتلفظ بلسانه مع كونه لا يريد ذلك في قلبه، وإنما يخرج الزكاة خوفا من الحاكم أو غيره أو طلبا لأمر دنيوي كنيل رضوان الناس وحسن الثناء منهم، وهذا لا خلاف في عدم إجزائه، لأنَّ اللفظ إذا خالف ما في القلب فالعبرة بما في القلب.
الثالثة: أن يتلفظ بلسانه ولا تحصل النية في قلبه، وهذه هي المسألة التي نازع القفال في إجزائها، ولا يتصور حصولها إلا في حالة الغافل والساهي، وتصور وقوع ذلك في الزكاة بيد، إذ يصعب أن يخرج المرء مالاً يضعه في مصارف الزكاة التي حدّدها الشارع، ويتلفط لذلك بلسانه -كل هذا- وهو غافل لا يدري ما
(1) هو أحمد بن محمد بن الحسين الشاشي القفال رئيس الشافعية بالعراق في عصره، كان متوليا التدريس في المدرسة النظامية، وتوفي ببغداد سنة (507 هـ)، له (حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء)، و (المعتمد)، و (الشافعي في شرح مختصر المزني). انظر:(شذرات الذهب 4/ 16)، (معجم المؤلفين 8/ 253).
(2)
المجموع (6/ 185).
يفعل وما يقول؛ خاصة والنفوس في الأموال شحيحة، وهي عليه جدّ حريصة. أما وقوع التلفظ باللّسان وعدم حصول ذلك بالقلب من واع مدرك لما يفعل وما يقول فهو أمر لا يتصور حصوله، لأنَّ المرء متى علم بوجوب فعل أمر عليه، ثم توجّه إلى الفعل فإنَّه لا بد أن ينويه، فكيف يتصور منه أن يتلفظ به، ولا ينويه بقلبه! هذا محال.
إذا وضح هذا اتضح أن ما ذهب إليه القفال غير صحيح، لأنه لا يمكن حصوله، وما استدل به لا ينهض للاحتجاج على المدعى.
فقد احتج بأنَّ الزكاة تخرج من مال المرتد ولا تصحّ نيته، فالتلفظ من غير نيّة جائز من باب أولى، والجواب: أن إخراج الزكاة من مال المرتد من غير نية أمر ممكن الحصول، وهذا غير ممكن، وكون ذلك يجزىء المرتد مسألة خلافية.
وأمّا استدلاله بجواز النيابة في أداء الزكاة، ولو كانت نيّة القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها، لأن النيات سر العبادات والإِخلاص فيها، فإنه منقوض بالحج والعمرة، فالنيابة فيهما جائزة، ولا تصحان إلاّ بالنية باتفاق.
وأما أنَّ القول بذلك هو مذهب الشافعي فعندي فيه نظر، وسأنقل نصّ عبارة الشافعيّ في الأم، ثم أبين مأخذهم منها، وما تبين لي فيها.
يقول الشافعي رحمه الله: "وإنما قلت: لا تجزىء الزكاة إلاّ بنية؛ لأنَّ له أن يعطي ما له فرضا ونافلة، فلم يجز أن يكون ما أعطى فرضا إلا بنية. وسواء نوى في نفسه أو تكلم بأن ما أعطى فرض".
ثم (قال الشافعي رحمه الله: "وإنما منعني أن أجعل النية في الزكاة كنيّة الصلاة لافتراق الزكاة والصلاة في بعض حالهما، ألا ترى أنه يجزىء أن يؤدي الزكاة قبل
وقتها، ويجزيه أن يأخذها الوالي منه بلا طيب نفسه، فتجزىء عنه، وهذا لا يجزىء في الصلاة" (1).
فقد فهموا أنَّ الاكتفاء باللفظ فحسب مذهب للشافعي في قوله: "وسواء نوى في نفسه أو تكلم"، ومن قوله:"وإنما منعني أن أجعل النيَّة في الزكاة كنيّة الصلاة لافتراق حالهما"(2).
وعندي أن كلام الشافعي هذا ليس نصا في الدلالة على الاكتفاء باللفظ، لاحتمال أن يكون مراد الشافعي لفظ اللسان مع نيّة القلب، وهذا ما فهمه صاحب التقريب من الشافعية من عبارة الشافعي هذه (3)، ويدلّ على أنَّ هذا هو مقصوده نصّه قبل ذلك على أن الزكاة لا تقبل في أكثر من مسألة، لأنه لم يخلص القصد للفرضية.
فمن ذلك قوله: "ولو أخرج عشرة دراهم فقال: إن كان مالي الغائب سالما فهده العشرة من زكاته أو نافلة، وإن في يكن سالما فهو نافلة. فكان ماله الغائب سالما لم تجزىء عنه (4) "، ثم علَّل عدم الِإجزاء بقوله:"لأنه لم يقصد بالنية فيها قصد فرض خالصا"(5)، ومعلوم أنَّ القصد هو النية، ومحله القلب.
وأما أنّه فرق بين نيّة الصلاة والزكاة فقد وضّح نفسه رحمه الله أنّ الفرق منحصر في جواز إخراج الزكاة قبل وقتها، وفي إجزائها إذا أخذها الِإمام من المالك بغير طيب نفس منه.
ولذا كان القول الأشهر والأصح في مذهب الشافعية أنه لا بد من تعيين نيَّة القلب، ولا يكفي التلفظ باللسان، بل نصّ إمام الحرمين على أنَّ المذهب هو تعيين نية القلب (6).
(1) الأم (2/ 19).
(2)
المصدر السابق.
(3)
المجموع (6/ 185).
(4)
الأم (2/ 19).
(5)
الأم (2/ 19).
(6)
المجموع (6/ 186).
وإذا اتضح لنا بعد العرض السابق أنّ التلفظ بالنية من غير وجود لها في القلب أمر مستحيل حال اليقظة والعلم، تبيّن لنا ما في قول بعض الحنفية:"من لا يقدر أن يحضر قلبه لينوي بقلبه، أو يشك في النية، يكفيه التكلم بلسانه"(1) من مجافاة للصواب، فإنَّ هذا أخطأ إذ زعم أنَّ استحضار النيَّة في القلب غير مقدور، كما أخطأ في زعمه أنَّ المتكلم بالنيّة من غير استحضار لها في القلب يجزىء والرد عليه علم مما مضى.
والخلاصة: أن القول بإجزاء التلفظ بالنيَّة من غير قصد قلبي قول ضعيف كما قال السيوطي (2)، بل هو شاذ كما نصَّ على ذلك العيني (3). وبذلك صحَّ قول ابن تيمية:"ولو تكلم بلسانه، ولم تحصل النية في قلبه، لم يجزىء ذلك باتفاق أئمة المسلمين"(4).
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 45).
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 32).
(3)
العيني على البخاري (1/ 33).
(4)
مجموع الفتاوى (22/ 218).