الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال النووي: "ولا نعلم أحدا خالف في ذلك"(1).
2 - صوم رمضان:
القائلون بجواز صومه بنيّة من النهار:
ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه إلى أنَّ صوم رمضان يتأدى بنية من بعد غروب الشمس إلى منتصف النهار (2).
وخالف زفر (3) من الأحناف في المريض والمسافر إذ صاما رمضان، قال: لا بد لهما من تبييت النيّة من الليل، لأنه في حقهما كالقضاء، لعدم تعينه عليهما، ولم يرتض الأحناف منه ذلك، لأنَّ صوم رمضان متعين بنفسه على الكل، غير أنه جاز لهما تأخيره تخفيفا للرخصة، فإذا صاما وتركا الترخيص التحقا بالمقيم الصحيح (4).
وقد استدل الأحناف بأدلة كثيرة نجملها فيما يأتي:
1 -
احتجوا بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في النّاس يوم عاشوراء:
"أنَّ من أكل فليتم، أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل"(5).
ولا يتم لهم الاستدلال بالحديث إلَّا على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبا، وقد نازع في ذلك بعض مخالفيهم.
قال النووي: "وأجابوا عن استدلال أبي حنيفة بأنَّ صوم عاشوراء كان تطوعا
(1) المجموع (6/ 337).
(2)
فتح القدير لابن الهمام (2/ 48)، تحفة الفقهاء (1/ 534)، المغني (ص 3/ 91)، الإفصاح (1/ 157)، حاشية ابن عابدين (2/ 92) بدائع الصنائع (2/ 85).
(3)
هو زفر بن الهذيل من تميم، فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة، أصله من أصبهان، أقام بالبصرة، وولي قضاءها، وتوفي بها سنة (158 هـ). (شذرات الذهب 1/ 243)، (العبر 1/ 229).
(4)
فتح القدير (2/ 48).
(5)
رواه البخاري فتح الباري (4/ 140).
شديد التأكيد، ولم يكن واجبا، وهذا صحيح مذهب الشافعية" (1).
واستدلّوا على أنَّ صومه لم يكن واجبا بحديث معاوية بن أبي سفيان (2) الذي خطب به على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" (3).
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ولم يكتب عليكم صيامه"، وقوله:"من شاء فليصم، ومن شاء فليفطر"، ظاهر الدلالة في أنَّه لم يكن واجبا قط، بل هو نصّ في ذلك.
ومما يؤكد هذا أنه لم يصح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من كان أكل بقضائه.
والتحقيق أنَّ صوم عاشوراء كان واجب الصوم، وأن وجوبه نسخ عندما فرض الله صوم رمضان، والذي يدلّ على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر"(4). وفي الحديث الآخر قالت عائشة: "فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلمّا فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء ترك صيامه"(5).
قال ابن حجر في فتح الباري: "ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثمَّ تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته
(1) المجموع (6/ 337).
(2)
هو معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي، مؤسس الدولة الأموية بالشام، وأحد دهاة العرب، كان فصيحا حليما وقورا، عمل كاتبا للوحي بعد إسلامه، ولد سنة (20) قبل الهجرة بمكة، وتوفي في سنة (60 هـ).
(تهذيب التهذيب 10/ 202)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 39)، (الكاشف 3/ 157).
(3)
صحيح البخاري (69 كتاب الصوم)، فتح الباري (4/ 244).
(4)
صحيح البخاري (69 كتاب الصوم)، فتح الباري (4/ 244).
(5)
صحيح البخاري (69 كتاب الصوم)، فتح الباري (4/ 244).
بأمر من أكل بالإمساك، ثمّ زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم:"لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أن المتروك وجوبه"(1).
وقد ضعف ابن حجر قول من قال: "المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه"، وقال:"لا يخفى ضعف هذا القول، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنَّه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ (2).
والجمع بين حديث معاوية الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الله لم يكتب علينا صيام يوم عاشوراء وحديثي عائشة وابن مسعود الدالّين على أنَّه كان واجبا ثم نسخ، أنَّ صوم عاشوراء ليس مما أوجبه الله تعالى بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكمُ الصيَام كمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3).
أو يقال: "لم يكتب عليكم صيامه"، أي لم يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان.
ومما يؤكد أنَّه كان واجبا أن رواة الوجوب هم من الصحابة المتقدمين الذين شهدوا أمره بصوم عاشوراء والنداء بصومه في السنة الأولى، أو أوائل العام الثاني من الهجرة، ومعاوية الذي روى عدم الوجوب من مسلمة الفتح فلم يشهد ما شهد أولئك (4).
وإذ حققنا أن صوم عاشوراء كان واجبا فهل يتم للأحناف الاستدلال بالحديث على جواز صيام رمضان بنيّة من النهار؟
(1) فتح الباري (4/ 247).
(2)
المصدر السابق.
(3)
سورة البقرة (183).
(4)
راجع فتح الباري: (4/ 247).
قال منازعوهم: لا؛ لأنَّ الحديث منسوخ، فلا يصحّ الاستدلال به. إلاّ أن الأحناف قالوا: لا يلزم من كون الحديث منسوخا أن تنسخ كلَّ الأحكام التي تتعلق به، فالحديث دل على شيئين: أحدهما: وجوب صوم عاشوراء، والثاني: أنَّ الصوم الواجب في يوم بعينه يصحُّ بنية من نهار، والمنسوخ الأول: ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني (1).
ومع ذلك فإنني أرى أنَّ الحديث لا تقوم به حجة، لأن المتنازع فيه في صوم الفرض المقدور هل يجوز أن ينويه من النهار بلا عذر؟ أما الذي دلَّ عليه الحديث فهو صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم عليه من الليل، كالذي لم يبلغه أن اليوم أول رمضان إلاّ بعد أن أصبح، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر كما سيأتي.
وقد أجاب النووي بجواب آخر حيث يقول: "وعلى فرض وجوبه فكان في ابتداء فرض عليهم من حين بلغهم، ولم يخاطبوا بما قبله، كأهل قباء في استقبال الكعبة، فإن استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة، فاستداروا وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، وأجزأتهم صلاتهم حيث لم يبلغهم الحكم إلاّ حينئذ، وإن كان الحكم باستقبال القبلة قد سبق في حق غيرهم قبل هذا"(2).
2 -
استدل صاحب الهداية من الأحناف بقوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: "إلاّ من أكل فلا يأكل بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم"(3).
وقد اختلط على المؤلف حديث الأعرابي هذا بحديث سلمة بن الأكوع (4) في صوم عاشوراء، إذ هذا اللفظ الذي ذكره صاحب الهداية لم يذكر في حديث
(1) حاشية السندي على النسائي (4/ 193).
(2)
المجموع (6/ 337).
(3)
الهداية (2/ 43).
(4)
سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع صحابي، كان شجاعا راميا عداء، يسبق الخيل، من الذين بايعوا تحت الشجرة، له في الصحيحين (77) حديثا، توفي بالمدينة سنة (47 هـ).
راجع: (تهذيب التهذيب 4/ 150)، (خلاصة تذهيب الكمال (1/ 404)، (الكاشف 1/ 385).
الأعرابي، وحديث الأعرابي أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة (1)، وابن حبان (2)، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم، عن ابن عباس أنَّ أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إني رأيت الهلال، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " قال نعم. قال:"فأذّن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" (3).
فرؤية الأعرابي وإخباره للرسول صلى الله عليه وسلم كانت ليلا، والأمر بصومه كان في الليل، كما هو واضح من قوله:"أن يصوموا غدا"، وقد استغرب ابن الهمام ما ذكره صاحب الهداية (4).
3 -
فقد أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر، وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر: متأخرا عنه؛ لأن كلمة "ثم" للتعقيب مع التراخي، فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار، والأمر بالصوم أمر بالنية، إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية، فكان أمرا بالصوم بنيّة متأخرة عن أول
(1) هو محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي، إمام نيسابور في عصره، ولد وتوفي بنيسابور (223 - 311 هـ)، وكان فقيها مجتهدا عالما بالحديث، تزيد مؤلفاته على (140) مؤلفا.
راجع: (طبقات الحفاظ ص 310)(شذرات الذهب 2/ 262)(الأعلام 6/ 253).
(2)
هو محمد بن حبان التميمي أبو حاتم البستي، مؤرخ محدث، من مؤلفاته (المسند الجامع الصحيح) المعروف بصحيح ابن حبان، وفاته في سنة (354 هـ).
راجع: (شذرات الذهب 3/ 6)، (طبقات الحفاظ ص 374)، (الأعلام 6/ 306).
(3)
تلخيص الحبير (2/ 187).
(4)
فتح القدير (2/ 43).
(5)
سورة البقرة (187).
النهار، ومن أتى به فقد أتى بالمأمور به، فيخرج عن العهدة، وفيه دلالة على أنَّ الإمساك في أول النَّهار يقع صوما وجدت فيه النيَّة أو لم توجد، لأنَّ إتمام الشيء يقتضي سابقية وجود بعض منه، ولأنَّه صام في وقت متعين شرعا لصوم رمضان لوجود ركن الصوم مع شرائطه.
هكذا احتج صاحب بدائع الصنائع بالآية الكريمة (1).
ونحن نخالفه في عدّة أمور:
الأول: نخالفه في أن "الأمر بالصوم أمر بالنيّة"، وتعليله لذلك بأنّه "لا صحة للصوم شرعا بدون النيّة".
ذلك أنّ وجوب النية في الصوم غير مأخوذ من مجرد الأمر بالصوم، بل من أدلّة أخرى منفصلة، كقوله تعالى:{وَمَا أمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنيّات"(3)، وبناء على ذلك فليس الأمر بالصوم أمرا بالنية.
ثانيا: إذا تقرّر الأمر السابق بطل ما بناه عليه من أن الشارع أمر بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار، ولو كان قوله هذا حقّا لكان الأفضل أن نأتي بالنية بعد طلوع الفجر، وهذا لم يقل به أحد، حتى ولا الأحناف الذين يجيزون النية من النهار.
ثالثا: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن هذه الآية كما بيّن غيرها من الآيات بقوله: "لا صوم لمن لم يبيّت الصيام من الليل"، فوجب أن نأخذ ببيانه.
رابعا: ونخالفه في أنّ الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أم لم توجد، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيّات"، وهذا لم ينو فكيف يقع صوما ولم توجد منه نيّة، ويلزم بناء على قوله: أن من أصبح ناويا الإفطار في رمضان أن يكون صائما إذا لم يأكل أو يشرب أو يجامع.
(1) بدائع الصنائع (2/ 86).
(2)
سورة البينة (5).
(3)
انظر ملحق الكتاب.
وتعليله بأنه صام في وقت متعين شرعا يلزم منه أن من صلى ركعتين في آخر وقت الصبح بحيث لم يبق من الوقت إلا ما يكفي لصلاة الفرض، ولم ينو بهما فرض الوقت أن تجزيا عن صلاة الفريضة، لأن الوقت أصبح متعينا لصلاة الصبح، ولا يصحُّ منه غيرهما، وهم لا يقولون بذلك.
4 -
واحتجوا بالقياس: ولهم في القياس طريقان:
الأول: قياس الفرض على النفل (1)، فالنفل صح فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينويه من النهار. وقال منازعوهم: هذا قياس لا يصح، لأننا عهدنا من الشارع أنه يخفف في النوافل ما لا يخفف في الفرائض.
ففي الصلاة مثلا سامح الشارع في ترك القيام في صلاة التطوع، وترك استقبال القبلة فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض (2).
ثم نقول لهم: صح الحديث في أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يحدث الصوم بنية من النهار في النوافل، وصح أن أكثر من صحابي قال:"لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" أو نحو هذا، وهذا له حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالرأي بل الذي نرجحه صحته مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله، كما سيأتي بيانه (3). فلمّا صح هذا وهذا كان الواجب ألّا نضرب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، بل علينا أن نوفق بن الأحاديث، وهذا ما فعلناه عندما حملنا حديث إحداثه النية من النهار على صوم النفل، بل هو صريح في ذلك، وحملنا حديث "لا صوم لمن لم يبيت الصيام من الليل" على صيام الفرض.
الثاني: قياس النّية المتأخرة على المتقدمة من أول الغروب والجامع بينهما
(1) فتح القدير (2/ 48).
(2)
المغني لابن قدامة (3/ 92).
(3)
انظر ص 179.
"التيسير ودفع الحرج"(1).
قالوا: "الأصل أنَّ النيّة لا يصح اعتبارها إلا بالمقارنة، أو مقدمة مع عدم اعتراض ما ينافي المنوي بعدها قبل الشروع فيه، فإنه يقطع اعتبارها على ما قدمنا في شروط الصلاة"(2).
ولم يجب فيما نحن فيه، لا المقارنة وهو ظاهر، فإنه لو نوى بعد الغروب أجزأه، ولا عدم تخلل المنافي لجواز الصوم بنيَّة يتخلل بينها وبينه الأكل والشرب والجماع مع انتفاء حضورها بعد ذلك إلى انقضاء يوم الصوم (3). أخذ يبين الحرج الذي سينشأ من عدم إجازة النية من النهار:"فكثير من النّاس يقع في الحرج لو لم تجز من النهار، كالذي نسيها ليلا، وفي حائض طهرت قبل الفجر ولم تعلم إلا بعده، وهو كثير جدا، فإنّ عادتهن وضع الكرسف عشاء، ثم النوم، ثم رفعه بعد الفجر، وكثير ممن يفعل كذا تصبح فترى الطهر، وهو محكوم بثبوته قبل الفجر، ولذا نلزمها بصلاة العشاء: وفي صبي بلغ بعده، ومسافر أقام، وكافر أسلم"(4).
ثم قال: "فيجب القول بصحتها نهارا، وتوهم أن مقتضاه قصر الجواز على هؤلاء، أن هؤلاء لا يكثرون كثرة غيرهم بعيد عن النظر
…
" (5).
فهو بذلك يثبت أن "المعنى الذي لأجله صحت النية المتقدمة لذلك التيسير ودفع الحرج موجود في النية المتأخرة
…
" (6).
والِإجابة على ذلك أن القول بهذا يلزمهم القول بإجازة الصوم بنيّة من النهار قبل الزوال وبعده، لا كما يقولون بأن النية بعد الزوال لا تصح، وذلك لأنَّ الحرج قد
(1) فتح القدير (2/ 48).
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
(4)
فتح القدير (2/ 48)، بتصرف يسير.
(5)
المصدر السابق.
(6)
المصدر السابق.