الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوجد بعد الزوال، فقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويفيق المجنون، ويصحو المغمى عليه، وهم لا يقولون بذلك.
ثم إن إجازة صوم هؤلاء من النهار بلا نية على القول به كما هو مذهب ابن حزم خاص بهم للضرورة (1)، وقد احتج لمذهبه هذا بحديث صيام عاشوراء حيث أمر من أكل بالإمساك، ومن لم يأكل بالصيام، أما الذين كانوا قادرين على النية من الليل فلم يفعلوا فلا حرج في إيجاب النيّة عليهم من الليل لإباحة النية في الليل بطوله، وقد تابع ابن حزم في مذهبه الشوكاني من المتأخرين (2).
إلاّ أن كثيرا من الفقهاء نازع في إيجاب النية على الكافر يسلم في نهار يوم الصيام، والصبي يبلغ أثناءه، لكونهما غير مُكَلَّفَيْنِ من أوله، فهم يرون أنَّ الصيام عليهما غير واجب، والحائض لها أن تنوي من الليل إذا علمت أن عادتها الطهر قبيل الفجر.
الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:
وذهب مالك وأحمد وإسحق (3) والشافعي وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يصح صوم رمضان إلاّ بنيّة من الليل (4).
أدلتهم:
أولا: احتجوا بما رواه النسائي (5) من طريق أحمد بن أزهر عن عبد الرزاق عن
(1) المحلى (6/ 164 - 166).
(2)
نيل الأوطار (4/ 208).
(3)
هو إسحق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المعروف بإسحق بن راهويه، عالم خراسان في عصره، وهو أحد كبار الحفاظ، أخذ عنه الإمام أحمد، والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، ولد في سنة (161 هـ)، وتوفي سنة (238 هـ).
راجع. (خلاصة تذهيب الكمال1/ 69)، (طبقات الحفاظ ص 188)، (تهذيب التهذيب 1/ 216).
(4)
المجموع للنووي (6/ 337)، وراجع المغني لابن قدامة (3/ 91).
(5)
هو أحمد بن شعيب، أصله من (لسا) بخراسان، استوطن مصر، وهو صاحب كتاب السنن الصغرى، أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث، ولادته في سنة (215 هـ)، ووفاته في القدس أو مكة ت (303 هـ).
راجع: (تذكرة الحفاظ 4/ 699)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 17)، (طبقات الحفاظ ص 303).
ابن جريج عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر (1) عن حفصة (2)، قالت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له"(3).
وقد اعترض الأحناف على الحديث باعتراضات عدة:
1 -
أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة (4)، وهذا الذي ذكروه من ضعف الحديث قاله جماعة من الحفاظ، فضعفوا رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجحوا أن الحديث موقوف.
قال البخاري: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف.
وقال الترمذي: الموقوف أصح.
وقال النسائي: الصواب عندي أنّه موقوف ولم يصح رفعه.
وجوابنا على ذلك من وجهين:
أ- أن جماعة من الحفاظ حكموا بصحته مرفوعا، منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم (5) في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين.
وقال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري.
(1) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أسلم مع أبيه وهاجر، راوية مكثر من الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتهر بالحرص الشديد على اتباع السنة، والاجتهاد في العبادة، ولد قبل الهجرة بعشر سنوات وتوفي سنة (84 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 81)، (الكاشف 2/ 112)، (طبقات الحفاظ ص 9).
(2)
هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب، لها في البخاري ومسلم (60) حديثا، ولدت قبل الهجرة بـ (18) سنة، وتوفيت سنة (45 هـ).
راجع: (تهذيب التهذيب 12/ 410)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 378)، (الكاشف 3/ 468).
(3)
سنن النسائي (4/ 196).
(4)
فتح القدير لابن الهمام (2/ 46).
(5)
هو محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي النيسابوري من أكابر حفاظ الحديث، أخذ عن نحو ألفي شيخ، صنف كتبا كثيرة منها:(تاريخ نيسابور)، (المستدرك على الصحيحين)، وتوفي سنة (405 هـ).
راجع: (تذكرة الحفاظ 3/ 1039)، (شذرات الذهب 3/ 176)، (طبقات الحفاظ ص 409).
وقال البيهقي رواته ثقات إلا أنّه روي موقوفا (1).
والسبب الذي من أجله ضعّفه لا يعتبر سببا قويا قويا لتضعيف الحديث، فكونه روي موقوفا، وروي مرفوعا، ليس سببا موجبا لتضعيفه، خاصة وأن الذي رفعه ثقة ثبت، بل إن روايته مرفوعا وموقوفا تعتبر سببا موجبا لقوة الحديث.
يقول ابن حزم بعد أن ساق رواية النسائي: "وهذا إسناد صحيح، ولا يضر إسناد ابن جريج له، أن وقفه معمر (2)، ومالك، وعبيد الله، ويونس، وابن عيينة (3)، فابن جريج (4) لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ". ثم قال: "والزهري (5) واسع الدراية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه، وكلاهما ثقة.
وابن عمر كذلك مرة رواه مسندا، ومرة روي أن حفصة أفتت به، ومرة أفتى به هو".
ثم يقول: "وكل هذا قوة للخبر"(6).
(1) انظر تحقيق ابن حجر للحديث في (تلخيص الحبير 2/ 188)، فمنه نقلنا، والحديث رواه غير النسائي: أبو داود والترمذي وابن ماجه، أقول: وقد وهم ابن رشد إذ عزاه في بداية المجتهد (1/ 301) إلى البخاري.
(2)
هو معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي، فقيه حافظ للحديث، ولد في البصرة (95 هـ)، وسكن اليمن، وتوفي بها (153 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 47)، (طبقات الحفاظ ص 82)، (الكاشف 3/ 164).
(3)
هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي الأعور، أحد أئمة الإسلام، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، توفي بمكة سنة (198 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 397)، (طبقات الحفاظ ص 113)، (الكاشف 1/ 379).
(4)
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ففيه الحرم الكي، وإمام أهل الحجاز بن عصره، رومي الأصل، ولد وتوفي بمكة (80 - 150 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 178)، (الكاشف 2/ 210)، (طبقات الحفاظ ص 74).
(5)
هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، من بني زهرة كلاب من قريش، أول من دون الحديث، وأحد كبار الحفاظ والفقهاء، تابعي من أهل المدينة، عاش ما بين (58 - 124 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 457)، (الكاشف 3/ 96)، (طبقات الحفاظ ص 42).
(6)
المحلى (6/ 162).
وقال الخطابي: "أسنده عبد الله بن أبي بكر (1)، والزيادة من الثقة مقبولة"(2).
ب- وعلى التسليم لهم بضعف الحديث: فإنه قد روي موقوفا عن ثلاثة من الصحابة بأسانيد صحيحة، والصحابة الذين يروى موقوفا عليهم هم: ابن عمر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم جميعا (3).
وهؤلاء لا يعرف لهم مخالف من الصحابة أصلا، والأحناف يستعظمون مخالفة الصحابي الذي لم يعرف له مخالف.
فإن قالوا: حديث عاشوراء يدل على جواز الصوم بنية من النهار، وهو أصح من هذا الحديث كما قاله ابن الهمام (4)، فالجواب أن حديث عاشوراء لا يدل على مدعاهم كما سبق بيانه.
2 -
أنَّه من الآحاد، فلا يصلح ناسخا للكتاب (5).
وكون الزيادة على النص القرآني تعتبر نسخا لا يسلم لهم، كما بحثناه من قبل.
3 -
أنهم حملوه على صوم القضاء والنذر:
وهذا تأويل بعيد كما يقول الآمدي: وإنما كان هذا التأويل بعيدا، لأن الصوم في الحديث نكرة، وقد دخل عليه حرف النفي، فكان ظاهره العموم في كل صوم، ثم المتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنمَّا هو الصوم الأصلي المتخاطب في اللغات: وهو الفرض والتطوع، دون ما وجوبه بعارض، ووقوعه نادر، وهو القضاء والنذر.
(1) هو عبد الله بن أبي بكر الصديق صحابي من العقلاء. الشجعان السابقين إلى الإسلام، كان له دور هام في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (11 هـ).
راجع: (الأعلام 4/ 234).
(2)
تلخيص الحبير (2/ 188).
(3)
راجع سنن النسائي، والمحلي (6/ 161)، وتلخيص الحبير (2/ 188).
(4)
فيض القدير (2/ 47).
(5)
بدائع الصنائع (2/ 86).
وقد أصاب الآمدي في ردّه عليهم عندما بين أنّ ترك ما هو قوي في العموم، وإخراج الأصل الغالب من النص، وإرادة العارض البعيد النادر- إلغاز في القول.
وقرّب هذا بمثال ضربه، فالسيد إذا قال لعبده:"من دخل داري من أقاربي فأكرمه"، ثم قال: إنّما أردت قرابة السبب دون النسب، أو ذوات الأرحام البعيدة، دون العصبات القريبة، كان قوله منكرا مستبعدًا" (1).
4 -
وقالوا ليس معناه كما ذكرتم، بل إنَّ المراد بقوله:"لا صيام لمن لم يبيت الصيام"، أي لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل بأن نوى الصيام من وقت النية (2).
وهذا تأويل غريب للحديث، يبطله أدنى تأمل في نصّ الحديث، فقوله:"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" نص في أنّ مراد الرسول -صلى الله عليه ولمسلم- النيّة من الليل، لقوله:"يبيت" والتبييت فعل الأمر في البيات وهو الليل.
ومما يوضح هذا الأمر رواية ابن عمر الموقوفة عليه "لا يصوم إلاّ من أجمع الصيام قبل الفجر"، وقالت عائشة مثل ذلك.
وقالت حفصة: "لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر". فنص الحديث المرفوع، والأحاديث الموقوفة صريحة في إيجاب إيقاع النيَّة في الليل، وهذا التأويل الذي ذكروه لا وجه له، بل هو تمحل من قائله لنصرة المذهب، وهذا لا يجوز لهم.
5 -
قالوا أيضا: الحديث محمول على نفي الفضيلة أو الكمال، كقوله:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"(3).
وجوابا أن هذا الحديث ضعيف (4)، ولو ثبت لما صحت صلاة لجار المسجد
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 83).
(2)
الهداية (2/ 46)، والعناية (2/ 46).
(3)
بدائع الصانع (2/ 86)، الهداية (2/ 46).
(4)
قال الحافظ السخاوي في حديث (لا صلاة لجار المسجد): رواه الدارقطني والحاكم والطبراني فيما أملاه، ومن طريقة الديلي .. ، وابن حبان في الضعفاء، وأسانيدها ضعيفة، وليس له -كما قال شيخنا- إسناد ثابت، وقد قال ابن حزم: هذا حديث ضعيف (المقاصد الحسنة ص 467).