الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصل العبادة ومبناها
"أصل العبودية: الحضوع والذل.
وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي} (1)، أي في حزبي، والتعبيد: التذليل، وطريق معبَّد: مذلل. وأعبده: اتخذه عبدا، وأعبدني فلان فلانا: ملكني إيّاه.
والتعبيد: الاستعباد، وهو أن تتخذه عبدا، وكذلك الاعتباد. وتعبدني: اتخذني عبدا.
والعبادة: الطاعة، وهي أبلغ من العبودية، لأنَّها غاية التذلل لا يستحقها إلاّ من له غاية الأفضال، وهو الله تعالى" (2).
هذا الذي ذكره الفيروز آبادي (3) خلاصة ما قاله أصحاب المعاجم في تفسير العبادة، فالعبادة أصلها الخضوع والتذلل، يقول ابن سيده (4) في المخصص: "أصل العبادة في اللغة: التذليل .. ، والعبادة والخضوع والتذليل والاستكانة قرائب في المعنى،
…
وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكلّ طاعة لله على جهة الخضوع والتذليل فهي عبادة" (5).
(1) سورة الفجر/ 29.
(2)
بصائر ذوي التمييز (4/ 9).
(3)
هو محمد بن يعقوب بن محمد الفيروزآبادي من أئمة اللغة والأدب، ولد (بكازارون)، من أعمال شيراز، كان مرجع عصره فى اللغة والحديث والتفسير، توفي في (زبيد) في اليمن سنة (817 هـ)، من كتبه:(القاموس المحيط)، و (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) انظر:(شذرات الذهب 7/ 126)، (معجم المؤلفين 12/ 118).
(4)
هو علي بن إسماعيل بن سيده، لغوي أديب، حافظ، ولادته ووفاته بالأندلس (398 - 458 هـ)، أهم كتبه (المحكم والمخصص). ترجمته في:(لسان الميزان 4/ 205)، (الأعلام 5/ 69)، (معجم المؤلفين 7/ 36).
(5)
المخصص (13/ 96).
ولم يصب الِإمام محمد عبده (1) -رحمه الله تعالى- عندما ذهب إلى أنَّ الذي يميز العبادة من غيرها من ألوان الخضوع والتذلل والانقياد ليس هو درجة الخضوع والطاعة، كما يقول اللغويون الذين يرون العبادة هي الطاعة والخضوع، وإنما الذي يميزها -في نظره- هو منشأ هذا الخضوع والانقياد، فإن كان منشؤه وسببه أمرا ظاهرا كالملك والقوة ونحوهما، فلا يسمى عبادة، وإن كان منشؤه الاعتقاد بأنَّ للمعبود عظمة وقدرة فوق الِإدراك والحس فهذا هو العبادة (2).
ومما يدلنا على خطئه فيما ذهب إليه، أنَّ القرآن عدَّ الذين يطيعون الحكام الظالمين، ويأتمرون بأمرهم، وينتهون عما نهوهم عنه ويتبعون نهجهم- عدَّهم عابدين لهم وهذا بين من مفهوم قوله تعالى:{أن يعبدوها} في قوله تعالى: {والذِينَ اجْتَنبوا الطَّاغوتَ أنْ يَعْبُدوها وَأَنَابُوا إلَى الله لهُمُ الْبُشرَى} (3).
والطاغوت قد يكون شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان إذا عند من دون الله (4).
وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكمْ يَا بنَِي آدَمَ ألَاّ تعْبُدوا الشَيْطَانَ، إنَه لَكمْ عَدُو مبين} (5). وما عبادة الشيطان إن لم تكن إطاعة أمره، واتباع حكمه، والسير في الطرق التي اختطها!
(1) هو محمد عبده بن حسن خير الله مفتي الديار المصرية، ومن رجال الإصلاح والتجديد في العصر الأخير، كان عالما بالتفسير والفلسفة والتصوف. له رسالة (التوحيد)،و (شرح نهج البلاغة)، و (الرد على الدهريين)، توفي في القاهرة سنة (1323 هـ).
(الأعلام 7/ 131).
(2)
راجع تفسير المنار عند تفسير قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} . من سورة الفاتحة.
(3)
سورة الزمر / 17.
(4)
راجع الطبري في تفسيره (3/ 13).
(5)
سورة يس / 60.
ومن أوضح ما ينفي هذا القول قوله تعالى: {اتَّخَذوا أحْبَارَهم وَرُهْبَانَهمْ أَرْبَابًا مِنْ دونِ الله وَالْمسيحَ ابْنَ مَريَمَ} (1)، وقد سقنا فيما سبق تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للآية، وأن المراد بعبادتهم إياهم اتباعهم في التحليل والتحريم بعيدا عن شرع الله.
واسمع إلى مقولة فرعون وملئه عندما طالبهم موسى وهارون بالإيمان. (فَقَالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثلْنِا وَقَوْمهما لَنَا عَابِدُونَ} (2).
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "لنا عابدون: يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون، يأتمرون لأمرهم، ويدينون لهم، والعرب تسمي كل من دان لملك عابدا له"(3).
وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمنوا كلُوا مِنْ طيباتِ مَا رَزَقْنَاكمْ، واشْكروا لله إنْ كنتُمْ إياه تَعْبدونَ} (4).
قال: "إنْ كنتم إيّاه تعبدون: يقول: إن كنتم منقادين لأمره، سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله، وحلله وطيبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان"(5).
وهذا الذي سقناه يردّ على ابن تيمية في قوله: "ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له"(6).
(1) سورة التوبة / 31.
(2)
سورة المؤمنون / 47.
(3)
تفسير الطبري (18/ 19).
(4)
سورة البقرة / 172.
(5)
تفسير الطبري 2/ 50.
(6)
العبودية (ص 44).
فقد جعل القرآن طاعة الشيطان عبادة للشيطان، وجعل خضوع بنى إسرائيل لفرعون عبادة له، مع كونهم غير راضين بذلك، فقد قال بنو إسرائيل لموسى:{أوذِينَا مَنْ قَبْلِ أَنْ تَأتينا، ومَنْ بَعْد مَا جِئْتَنَا} (1). وهذا الإيذاء ذكر لنا القرآن صورا منه: {وإذْ نَجيناكْم مِنْ آل فِرْعَوْنَ يسُومونَكمْ سوءَ الْعَذَاب، يُذَبحونَ أبْنَاءَكمْ، وَيَستحْيونَ نِسَاءَكمْ، وَفِي ذَلِكُم بلَاء منْ رَبكُمْ عَظِيم} (2)، فمع هذا الإيذاء لا يمكن أن تصحب مذلة بنى إسرائيل وطاعتهم وانقيادهم لفرعون محبة أبدا. صحيح أن العبادة المأمور بها شرعا لا يمكن أن تتحقق إلا بأمرين كما يقول ابن تيمية:
الأول: الخضوع والذلة لله عز وجل، وعنوان هذا الخضوع هو الاستسلام لأمره، واتباع نهجه، والانقياد لشرعه، فمن رفض ذلك كلَّه فليس بخاضع، ولا مطيع.
الثاني: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله تعالى، فليس في الوجود من هو أجدر من الله تعالى بأن يحب.
"فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له"(3).
يقول ابن كثير (4) رحمه الله تعالى: "العبادة في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف"(5).
(1) سورة الأعراف / 129.
(2)
سورة البقرة / 49.
(3)
العبودية (ص 44).
(4)
هو إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، حافظ مؤرخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى في الشام (701 هـ)! أكثر من التأليف، من كتبه:(البداية والنهاية)، (وتفسير القرآن العظيم)، توفي بدمشق عام (774 هـ).
(5)
تيسير العزيز الحميد (ص 30).