الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة
العبادة التي يتقرب بها إلى الله -تعالى- لا يمكن أن تعرف إلا بوحي الله المنزل، فنحن نتقرب إلى الله بالأفعال التي يحبها الله -تعالى- ويرضاها، ومحبوبات الله ومرضياته غيب محجوب عنا، ولا نستطيع معرفته إلا إذا أعلمنا بذلك.
من هنا كانت العبادات التي تقربنا إلى ربنا مبينة مفصلة، ولم يترك الله لأحد فيها قولا، ولم يدع فيها نقصا يحتاج إلى إكمال ولو ترك شيء منها بغير إيضاح لكان مدعاة إلى الاختلاف والتنازع، ومن زعم أن في الدين بدعة (1) حسنة فإنه يزعم أنَّ الله لم يكمل دينه، ولم يتم نعمته على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، والله يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)، فالدين الذي رضي الله أن نتقرب به إليه هو الدّين الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم عبادة وقربة فلن يكون بعد ذلك عبادة ولا قربة.
والذي يزعم أنه يمكن أن يتقرب بعبادة مستحدثة لم يفعلها الرسول -صلى الله
(1) أصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول تعالى:{بديع السموات والأرض} ، أي مبدعهما من غير مثال سابق متقدم. ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبق إليها سابق، ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، وقد عرفها بعض الفقهاء بقوله:"هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه". فالطريقة: الطريق والسبيل، وهي شاملة لأمور الدين والدنيا وقوله: في الدين، أخرج البدعة الدنيوية، فإن منها المستحسن والمستقبح. وقوله (مخترعة) أخرج طرق التعبد المشروعة، وقوله (تضاهى الشرعية) لأنه لو كانت، تضاهي الشرعية لم تكن بدعه لأنها تصير من باب الأفعال العادية، وقوله: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى "هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها، وذلك أن المبتدع يريد المبالغة بالتعبد بفعل ما لم يؤمر به، كأنه لم يكتف بالمأمور".
راجع: الاعتصام للشاطبي (1/ 29 - 36)، فقد أطال في التعريف وشرحه.
(2)
سورة المائدة / 3.
عليه وسلم- هو بين أمرين أحلاهما مر:
إما أن يزعم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم علم هذه العبادة ولكنه لم يخبر بها، وهذا اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة في التبليغ. وإما أن يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم أن هذه عبادة وقربة، وأن هذا المسكين علم شيئًا لم يعلمه المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم بالجهالة والضلالة.
ومن المعلوم المقطوع به أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه، وأنه بلغ ما أنزل إليه من ربّه، وقد شهد له بذلك أصحابه في الجمع الحاشد في حجة الوداع، فما دام الأمر كذلك فإنه لم يبق إلاّ أنَّ العادات المبتدعة المستحدثة ضلالة تهلك صاحبها وتوبقه، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح خطبته بالحمد والثناء على الله، ثم يقول:"أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة"(1).
وفي رواية: "وكل محدثة بدعة، وكلْ بدعة في النار"(2).
وفي حديث آخر "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"(3).
والعبادات المبتدعة لا تقبل من صاحبها، بل هي مردودة وصاحبها موزور غير مأجور، فقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ"(4).
وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
(1) رواه مسلم عن جابر (مشكاة المصابيح 1/ 51).
(2)
هذه الزيادة عند النسائي، انظر تحقيق المشكاة (1/ 51).
(3)
رواه الترمذي وصححه، وأبو دارد وأحمد وابن ماجه، (مشكاة المصابيح 1/ 58).
(4)
الحديث متفق عليه، (انظر مشكاة المصابيح 1/ 51).
والنصوص في ذم البدع في الكتاب والسنة كثيرة، وقد بالغ علماء السلف في ردّ البدع وذمّ أصحابها، ومما حفظه العلماء وتناقلوه بالتقدير والإجلال قول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (1): سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها فهو مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" (2).
لقد أدرك العلماء منذ البداية أن الإخلاص ركن العمل المقبول عند الله، ولكنَّهم لم يغفلوا الركن الثاني، وهو أن يكون العمل مشروعا للتعبد به، وقد فسر العلماء قوله تعالى:{الذِي خَلَقَ الْمَوْت وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكمْ أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً} (3) بهذا، ومن هؤلاء الفضيل بن عياض (4) قال:"هو أخلص العلم وأصوبه، فسئل عن معنى ذلك، فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا وكان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"(5).
فما عدَّه بعض العباد عبادة وقربة مما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم كتحريم الطيبات من اللحم والفاكهة، ومن ترك الكلام والصمت الدائم فلا يكلمون أحدا، وتعبّدهم الله بحلق شعر الرأس، واستحداث صلوات وأوراد
(1) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، الخليفة الصالح والملك العادل، ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك ولم تطل خلافته، قبل دس له السم. ولد بالمدينة عام (21 هـ)، وتوفي (بدير سمعان)، من أرض المعرة عام (101 هـ).
راجع: (خلاصه تذهيب الكمال 2/ 274)، (شذرات الذهب 1/ 119)، (طبقات الحفاظ ص 46).
(2)
الاعتصام 1/ 103.
(3)
سورة الملك/ 2.
(4)
هو الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي شيح الحرم المكي، من أكابر العباد، ولد بسمرقند، وسكن مكة وتوفي بها (187 هـ).
راجع: (خلاصة تذهب الكمال 2/ 338)، (الكاشف 2/ 386)، (طبقات الحفاظ ص 104).
(5)
إعلام الموقعين (2/ 160).
وطرق معينة في الذكر لم يصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها، كل ذلك من الابتداع في دين الله، ولا يشفع لصاحبه أنّ نيته حسنة، ومراده إرضاء الله تعالى، وقد قال ابن مسعود لبعض المبتدعة عندما قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما أردنا إلاّ الخير، قال: وكم من مريد للخير لم يدركه.