الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التسخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ، والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة.
وقد يرائي بعمله؛ كأن يطوّل الصلاة، ويزيد في الركوع والاعتدال منه أو السجود، وقد يرائي بالصوم أو بالغزو أو بالحج أو بطول الصمت وبذل المال.
وقد يرائي بصحبة العلماء بأن يحرص على أن يسير مع العالم أو العابد، ليقال: إنه صاحبه، ومن أهل ودّه، فيعظَّم بذلك.
حكم العمل المراءى به
هل كل عمل خالطه قصد الرياء يعدُّ باطلا؟
لم تتفق نظرة العلماء في هذا الموضوع، فالصنعاني ينظر إلى القصد هل تمحض للرياء أم صاحبه قصد الثواب، وفي الحالة الثانية هل كانت إرادة الثواب أرجح أو أضعف أو مساوية (1)؟
وهو بذلك يضع أمامنا أربع صور لا يعطيها حكما واحدا، والصورة الأولى لا أظن أحدا من العلماء خالف في الحكم عليها بالبطلان، وهي الحالة التي لا يقصد فيها العابد الثواب، إنما قصده كله أن ينال منزلة ومحمدة عند الناس.
وقد سمّى ابن رجب (2) هذا النوع من الرياء بالرياء المحض، وهذا يقع من
المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} (3).
ويرى ابن رجب أن هذا النوع من الرياء لا يكاد يقع من مؤمن بالله واليوم الآخر
(1) سبل السلام 4/ 185.
(2)
هو عبد الرحمن بن شهاب الدين: أحمد بن رجب السلامي البغدادي، ثم الدمشقي من العلماء الأفذاذ الذين حفظوا الحديث، وقاموا عليه له (شرح جامع الترمذي)، و (جامع العلوم والحكم)، (والقواعد الفقهية). ولادته في 736 هـ، ووفاته (795 هـ).
راجع: (شذرات الذهب 6/ 339)، (طبقات الحفاظ ص 536)، (الأعلام 4/ 67).
(3)
سورة النساء / 142.
في فرض الصلاة والصوم، وأنّه قد يقع في الصدقة الواجبة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإنّ الإخلاص فيها عزيز.
ويقول ابن رجب في هذا: "العلل على هذا النحو لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحقُّ المقت من الله والعقوبة"(1).
وقد سمّى الحارث المحاسبي هذا النوع من الرياء: الرياء الأعظم والأشد، وقد قال فيه:"الوجه الذي هو أشدّ الرياء وأعظمه: إرادة العبد العباد بطاعة الله عز وجل، لا يريد الله عز وجل بذلك"(2).
وقال الغزالي في هذا النوع: "أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعا، وهو سبب المقت والغضب"(3).
أما الصور الثلاثة الأخرى فيكون قصد الرياء مصحوبا بقصد الثواب، وإنما كانت الصور ثلاثة لأن إرادة الثواب قد تكون أرجح، وقد يكون قصد الرياء أرجح، وقد يتساويان.
والصنعاني هنا يتابع الغزالي في النظر إلى قدر قوة الباعث (4)"فإن كان الباعث الديني مساويا الباعث النفسي تقاوما وتساقطا، وصار العمل لا له ولا عليه. وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع، وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب؛ نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب. وإن كان قصد التقرب أغلب بالِإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني".
والغزالي يرى أن هذا من العدل الذي تقتضيه قاعدة الثواب التي نصَّ الله عليها
(1) الدين الخالص 2/ 382.
(2)
الرعاية ص 135.
(3)
إحياء علوم الدين.
(4)
راجع إحياء علوم الدين (4/ 384 - 385)، وكل ما نقلناه عنه هنا من هذا الوضع.
في غير آية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (2)، فقصد الخير لا يضيع عند الله:"فإن غلب قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه، وبقيت زيادة، وإن كان مغلوبا سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسدة".
والغزالي يقوي مذهبه ويستدل عليه بالمعقول وبالنصوص.
فهو يقول في توضيح مذهبه: "وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها، فداعية الرياء من المهلكات، وإنما غذاء هذا المهلك وقوته في العمل على وفقه، وداعية الخير من المنجيات، وإنما قوتها بالعمل على وفقها، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوّى تلك الصفة، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوى تلك الصفة، وأحدهما مهلك والآخر منج، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما".
وقد مثل لهذا بالأمور المحسوسة، فالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضرّه، ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما، وإن كان أحدهما غالبا لم يخل الغالب عن أثره. فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية، ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى- فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر، ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده، وفي تقريبه من الله أو إبعاده، فإذا جاء بما يقربه شبرا مع ما يبعده شبرا فقد عاد إلى ما كان، فلم يكن له ولا عليه، وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبرا واحدا فضل لا محالة شبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أتْبِع السيئَةَ الحسَنةَ تمْحُهَا"(3) فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقبه، فإذا
(1) سورة الزلزلة/ 7، 8.
(2)
سورة النساء / 40.
(3)
رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (جامع العلوم ص 147).
اجتمعا جميعا فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة".
وقد استدل بالإجماع المنعقد على صحة الحج ممن قصد التجارة في حجه مع أن حجه قد امتزج به حظ من حظوظ النفس.
وكذلك الغزاة الذين يقصدون نيل الأسلاب والغنائم هم من المجاهدين في سبيل الله، ولا يخرجهم ذلك عن كونهم مجاهدين، وإنما كان الأمر كذلك لأنَّ "الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله، وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية، فلا يحبط به الثواب، نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلا، فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة".
والغزالي لم تخف عليه النصوص التي تدلّ على أن العمل المشوب بالرياء باطل، كقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1)، وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النّار يوم القيامة، والأحاديث التي يعدّ الرسول صلى الله عليه وسلم الرياء فيها شركا، والتي يقول الله فيها يوم القيامة للمرائي: خذ عملك ممن عملت، والحديث الذي يحصر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الجهاد فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
أقول لم تخف هذه النصوص عن الغزالي، ولم تغلب عن باله، فهو يذكرها، ثمّ يعقب عليها قائلا:"هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه، بل المراد منها من لم يرد إلا الدنيا، كقوله: "من هاجر يبتغي شيئًا من الدنيا، وكان ذلك هو الأغلب على همه
…
، وأما لفظ الشركة حيث ورد فلا مطلق للتساوي، وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما، ولم يكن له ولا عليه، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب، ثم إن الإنسان عند الشركة في خطر أبدا، فإنَّه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده، فربما يكون عليه وبالا
…
".
هذا خلاصة مذهب الذين اتجهوا للنظر في قوة الدافع.
(1) سورة الكهف /110.