الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
لماذا انقسم المبحث إلى بابين
تمهيد
السبب في انقسام المبحث إلى بابين
انقسم هذا البحث إلى بابين لأن المقاصد الصادرة من المكلفين تهدف إلى أمرين دائما:
الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه، وهي في ذلك تتجه إلى تحديده وتمييزه عما عداه.
الثاني: الهدف الذي تريد الوصول إليه من وراء هذا الفعل.
فالذي يدفع من ماله للآخرين، يوجه قصده إلى هذا الفعل، ولو لم يقصده لمَا كان، وهو إذ يخرج المال الحبيب إلى نفسه لا بدَّ أنه يرمي إلى تحقيق هدف معين، فبعض الناس يريد ما عند الله، وآخرون يريدون مديح الناس وثناءهم.
والقصود التي تتجه إلى العبادة لفعلها وتمييزها وتحديدها هي موضوع الباب الأول.
وهذا النوع من القصد عني بمباحثه الفقهاء، فنرى كلامهم في القصد يدور حوله.
وقد عنونا له "بالنيّات"، لأنه الاصطلاح الذي يدور على ألسنة الفقهاء وفي كتبهم كثيرا، وهم يطلقون ذلك بدون تقييد.
وبعض الباحثين يحلو له أن يسمي هذا النوع من المقاصد بالنية المباشرة، أو النية الأولى، تمييزا له عن مباحث القسم الثاني حيث أسموه: النية غير المباشرة، أو النية الثانية.
أما القصود التي تتجه إلى تحقيق أهداف معيّنة من وراء الفعل فهذه خصصنا لها الباب الثاني.
وقد عني بهذه المباحث علماء التوحيد والسلوك والأخلاق، ولم يهملها الفقهاء.
وقد عنونا لهذا الباب "بالِإخلاص" لأنَّه الاصطلاح الذي استعمله القرآن، والسنة النبويّة، ولأنَّ مدلوله واضح عند من له صلة بعلوم الشريعة.
وبعض الباحثين يطلق على مباحث الباب الثاني: الدوافع والبواعث، أو الأهداف والغايات، أو النيّة غير المباشرة، أو النية الثانية.
والباحثون في هذا المجال أدركوا أنَّ مباحث المقاصد تقسم إلى هذين القسمين، فالحارث المحاسبي (1) يصرح بهذا وهو يعرف النية، فيقول:
"النية هي إرادة العبد أن يعمل بمعنى من المعاني، إذا أراد أن يعمل ذلك العمل لذلك المعنى، فتلك الإرادة نيّة، إمّا لله عز وجل، وإما لغيره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنَّما لامرىء ما نوى"، لأنَّها نيّة لمعنيين: نية أن يعمل العمل، ونيّة أن يعمله لمعنى من المعاني دنيا أو آخرة"(2).
فكلام الحارث هنا صريح في صحة التقسيم الذي ذهبنا إليه ومن أجله جعلنا الموضوع منقسما إلى بابين، إلا أنَّه سمّى القسم الثاني "بالنية لمعنى من المعاني"، وهو الذي أسماه بعضهم بالهدف، وأسميناه بالإخلاص.
وممن تعرض لهذا التقسيم ابن تيمية في الفتاوى، يقول في هذا الأمر:
(1) هو الحارث بن أسد المحاسبي عالم بالأصول والمعاملات واعظ، له مؤلفات كثيرة. منها (الرعاية لحقوق الله)، توفي في سنة (243 هـ).
(خلاصة تذهيب الكمال 1/ 181)، (الأعلام 2/ 153)، (معجم المؤلفين 3/ 174).
(2)
الرعاية لحقوق الله (ص 205).
"النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين: على قصد العبادة، وقصد المعبود"(1).
ويقول: "قصد العبادة بها تتميز أنواع العبادات وأجناس الشرائع
…
، وقصد المعبود هو الأصل الذي دلّ عليه قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2)، وبه يتميز من يعبد الله مخلصا له الدين ممن يعبد الطاغوت، وهو الدين الخالص الذي تشترك فيه جميع الشرائع (3)(4).
لماذا بدأنا بقصد العبادة في قصد المعبود؟
لا يتقدم المرء إلى الفعل إلاّ إذا وضح الهدف الذي يجعله يقدم على القيام به، ولذلك كان حريا بنا أن نبدأ بمباحث (الإخلاص)، لأنها تمثل الهدف والغاية، إلا أن العامل وإن كان الهدف البعيد هو الذي يحركه- أول ما يبدأ به من الناحية الفعلية العمل، وهذا معنى قولهم:"أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل"، يقول ابن خلدون:"فلا يتمّ فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض، ثم يشرع في فعلها، وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير، وهو آخرها في العمل، وأولها في العمل هو المسبب الأول، وهو آخرها في الفكر، ولأجل الحصول على هذا الترتيب يحصل الانتظام في أفعال البشر".
وكان قد ضرب مثلاً من قبل كلامه هذا يوضح الأمر بشيء محسوس، فقال:"لو فكّر في إيجاد سقف يكنّه انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط، فهو آخر الفكر، ثم يبدأ في العمل بالأساس ثم بالحائط ثم بالسقف وهو آخر العمل، وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل"(5).
(1) مجموع الفتاوى (26/ 23)، وراجع (18/ 256) منه.
(2)
سورة البينة/ 5.
(3)
مجموع الفتاوى (26/ 23).
(4)
وراجع في المسألة علاوة على ما تقدم: (الذخيرة 1/ 236).
(الأشباه والنظائر للسيوطي ص 12)، (قواعد الأحكام 1/ 177، 207)(دستور الأخلاق ص421 - 422).
(5)
العبر وديوان المبتدأ والخبر (1/ 839).