الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذين قالوا بلزوم النية لمثل الطواف، والوقوف بعرفة نظروا إلى أن كلَّ عمل من هذه الأعمال منفصل عن غيره، فالأمر مختلف عن الصلاة.
أما النية الأولى في بدء الحج والعمرة فالجميع متفقون على وجوبها فيهما.
النية في الاعتكاف
الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد بنيّة العبادة وبناء على ذلك لا يصح إلا بنيّة، لأنّه عبادة محضة.
ولا خلاف بين العلماء في ذلك، وممن نص على وجوب النية في الاعتكاف النوويّ من الشافعية، والكاساني وابن نجيم من الأحناف، وابن هبيرة وصاحب التوضيح من الحنابلة (1).
النية في الكفارات
يقول العز بن عبد السلام: "هي عبادات وقربات لا تصح إلا بالنيات"(2)، ويقول ابن نجيم:"وأما الكفارات فالنيّة شرط لصحتها عتقا أو صياما أو إطعاما"(3)، وممن نص على وجوب النية في صوم الكفارة الشافعي رحمه الله تعالى (4).
النيّة لأعمال القلب
يذهب الفقهاء وشراح الحديث إلى أن الإيمان بالله، وتعظيمه، والخوف منه، والرجاء لثوابه، والتوكل عليه، والمحبة له .... ونحو ذلك من العبادات التي هي
(1) المجموع (6/ 526)، بدائع الصنائع (2/ 109)، الإفصاح (1/ 170) التوضيح (ص 100)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 22).
(2)
قواعد الأحكام (1/ 178).
(3)
الأشباه والنظائر (ص 22).
(4)
الأم (2/ 81).
من أعمال القلوب- لا تحتاج إلى نيّة (1).
وحجّتهم فيما ذهبوا إليه أن النية شرعت لتمييز العبادة عن العادة، ولتمييز رتب العبادات، وهذه الأعمال عادات لا تكون عادات ولا تلتبس بغيرها، فهي منصرفة إلى الله تعالى بصورتها.
وقد يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الَأعْمَالُ بِالنِياتِ"، فالأعمال شاملة لأعمال الأبدان والقلوب، وقد احتج البخاري بهذا الحديث على وجوب النيّة في الِإيمان (2)، واستمع لقول ابن دقيق العيد "ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب قد يطلق عليه عمل"(3).
ويقول القسطلاني: "وربَّما أطلق -أي العمل- على حركةِ النفس فعلى هذا يقال: العمل إحداث أمر قولا كان أو فعلا بالجارحة أو بالقلب"(4).
ولهذا ذهب بعض المتأخرين إلى إيجاب النية في أعمال القلوب، محتجا بأن أعمال القلوب داخلة في قوله عليه السلام:"إنَّمَا الَأعْمَالُ بالنّيَّات"، وجعل الحركة المأخوذة في تعريف الفعل أعمّ من الحركة الحسّيّةِ والمعنوية. واستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"أَفْضَلُ الَأعْمَالِ إِيمَان بِالله وَرَسولهِ"(5).
وهذا المذهب بعيد المأخذ، مخالف لقول العلماء الأعلام، فالعمل في اللّغة حركة البدن، وعندما يطلق العمل ينصرف الذهن مباشرة إلى عمل الجوارح، يقول ابن دقيق العيد:"الأسبق إلى الفهم تخصيص العمل بأفعال الجوارح"(6).
(1) الحطاب على خليل (1/ 232)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 12، 13)، الذخيرة (1/ 237)، قواعد الأحكام (1/ 177).
(2)
انظر الفتح 1/ 135، قال البخاري: "باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرىء ما نوى، فدخل في الإيمان والوضوء
…
".
(3)
إحكام الأحكام (1/ 68).
(4)
إرشاد السارى (1/ 53).
(5)
العدة (1/ 68)، والذي قال بوجوب النية في أعمال القلب إبراهيم الكردي كما يذكر الصنعاني في العدة، والحديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي بن كعب.
(6)
إحكام الأحكام (1/ 68).
وتعميم الفعل على الحركة الحسية والمعنوية محل وقف، فاللغوي لا يقصد بالحركة إلاّ الحسيّة، فإذا رأينا رجلا ساكنا لا نصفه بالحركة، وإن كان مشغول القلب، ولا يثبت للقلب صفة الجوارح إلاّ مجازا من باب قول الشاعر:(1)
وَتَلَقتْ عينِي فمُذْ خَفَيِتْ
…
عَنْهَا الطلُول تَلَفَّتَ الْقَلْبُ
أما استدلاله بالحديث: "أفضَلُ الَأعْمَال إيمان بِالله وَرَسوله"، فهذا لا يتمّ إلاّ على قول المرجئة (2):"إن الإِيمان إنّما هو تصديق القلب فقط".
أما على قول أهل السنة والجماعة فإنَّ الإيمان عندهم: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، فلا يتم له الاستدلال بالحديث، لأن الإيمان عندهم -كما رأيت- يطلق على ثلاثة أمور: اثنان منهما أعمال لغوية، فإطلاق العمل على المجموع إنَّما هو من باب التغليب، فلا يدلّ على أنّه أطلق على فعل القلب عمل.
وبمثل هذا وجّه ابن حجر مراد البخاري من إدخاله الإِيمان في الأعمال، فمذهب البخاري أن الإِيمان اعتقاد، وقول، وعمل، فهو لا يريد بالإيمان مجرد التصديق، إذ لا يحتاج إلى نيّة كسائر أعمال القلب لأنّها متميزة لله تعالى (3).
وبمثل هذا وجه الكرماني قول من أوجب السنة في التوحيد أنّ المراد به كلمة التوحيد (4).
ويرى بعض العلماء أن النية أمر ملازم لأعمال القلوب، لا يحتاج العبد إلى القيام به، فأعمال القلوب لا يمكن أن تقع إلا منويّة، وإذا فقدت النيّة منها فقدت
(1) العدة (1/ 68).
(2)
المرجئة هم الذين أرجؤوا العمل عن الإيمان، أي أخروه، فلم يدخلوه في مسماه، فالإيمان عندهم التصديق القلب فحسب، والإيمان عند الأئمة الثلاثة اعتقاد وقول وعمل، وعند أبي حنيفة فالإيمان هو اعتقاد وقول، وجعل الأعمال نتيجة وأثرا للاعتقاد، ومكان المسألة كتب التوحيد والعقائد.
(3)
فتح الباري (1/ 135).
(4)
الكرماني على البخاري (1/ 20).
حقيقها: "وأما ما كان من المعاني المحضة: كالخوف والرجاء، فهذا لا يقال باشتراط النيّة فيه، لأنّه لا يمكن أن يقع إلاّ منويا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته"(1).
وبهذا نرد على الذين قالوا: النيّة تحتاج إلى نيّة، لأن النيّة منصرفة بنفسها إلى الله تعالى، ولا نحتاج أن نقول كما قال القسطلاني:"لا تحتاج النيّة إلى نية، لأنّه يلزم من ذلك التسلسل أو الدور، وهما محالان"(2).
(1) فتح الباري (1/ 137)، وعزاه إلى ابن المنير.
(2)
إرشاد الساري (1/ 53).