الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لماذا كان الله هو المقصود دون سواه
(1)
التوجه إلى الله وقصده دون سواه ليس أمرًا غفلا عن الأسباب المنطقية والحقائق الصادقة التي يطمئن إليها العقل وترضى بها النفس، وسنكتفي هنا بإيراد عجالة توضح بعض الحقائق التي تدعونا إلى أن نقصر قصدنا على ربنا في مجال العبودية والقربات.
1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:
الناس جميعًا مؤمنون وكفار لا بد لهم من مراد يقصدونه، ويتوجهون إليه، على ذلك فطرهم الله، فالإنسان دائم الهم والإرادة، دائب العمل والحركة، ولذلك كان أصدق الأسماء حارث وهمام كما ورد في الحديث (2)، لأنَّ كل إنسان حارث بمعنى كاسب، وكلّ إنسان همّام، أي كثير الهم والإرادة.
فالإِنسان مجهول على أن يقصد شيئًا، ويريده، ويستعينه، ويعتمد عليه، في تحصيل طلبه، قد يكون هو الله، وقد يكون غيره، ولكنَّ الِإنسان لا يمكن إلاّ أنْ يكون كذلك، أي له مراد يقصده ويتوجه إليه.
والسبب في ذلك أن الإنسان فقير إلى غيره محتاج إليه، كي يسد نقصه، ويكمل عجزه ويحصل حاجته، وفقره هذا دائم لا يتوقف ولا ينقطع.
ومن عجائب الإنسان أنه إذا أراد شيئًا من المخلوقات ثم حصل عليه ملَّه وطلب غيره أو أكثر منه، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ
(1) للتوسع في دراسة هذا الموضوع راجع كتاب العبودية لابن تيمية.
(2)
رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي عن أبي وهب الجشمي، وكانت له صحبة (انظر حاشية المقاصد الحسنة ص 319). وانظر ص 55.
وَادِيانِ مِنْ ذَهَب لَتَمَنّى ثَالِثَا" (1). فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه، ولم تصل إليه، وليس هناك من شيء يمكن أن يسدَّ فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربّها ومعبودها، فتعرفه وتقصده دون سواه، عند ذلك يجد القلب مطلوبه، وتحصل النفس على مرادها، فيكون الإطمئنان والراحة والهناء، وفي ذلك يقول ربُّ العزة:{أَلَا بذِكر الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} (2)، فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الربّ المعبود معرفة وقصدا وتوجها.
والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية، تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كلّه والفضل كلّه حازته الذات الإلهية، يقول ابن خلدون في هذا:"وتطلب غريزة العقل مقتضى طبعها: وهو المعرفة والعلم، فتحرك الفكر إلى تحصيله، وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها، إذ لا ترى موجودا أكمل منه، فلا تزال تتطلع إلى جانبه بتصورات وأفكار تتعاقب عليها، تُلحم وتسدي، وتعيد وتبدي، وحركاتها في جميع هذه الأمور متواترة مترادفة، لا تفتر طرفة عين، ولا يلحقها من الكسل والملال ما يلحق الجوارح والأعضاء، وهي متنقلة دائما أسرع من إيماض البرق وحركة الدبال بالريح"(3).
والسبب الذي يجعل كثيرا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا -فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمّة، فكلّما صحّ العلم، وانتفى الجهل، وصحت العزيمة، وعظمت الهمّة؛ طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض النّاس همّه لقمة يسدّ بها جوعته، وشربة روية تذهيب ظمأه، ولباس يواري سوأته- وهو مذهب ذمّ أهل الجاهلية أصحابه، وفي مثل هؤلاء يقول حاتم طيىء:(4)(5)
(1) متفق عليه (مشكاة المصابيح 2/ 672).
(2)
سورة الرعد / 28.
(3)
شفاء السائل (23).
(4)
هو حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي القحطاني، فارس شاعر جاهلي، يضرب المثل بجوده، وفاته سنة (46) قبل الهجرة.
راجع: (الأعلام)(2/ 151).
(5)
عيون الأخبار (1/ 223).
لَحى اللُّه صُعْلوكًا مُناه وَهَمُّه
…
من العيش أن يلقي لبوسا ومطعمًا
يَرَىَ الْخُمْصَ تَعْذِيبًا وَإنْ يَلْق شبْعَة
…
يَبِتْ قلبه من قلة الهم مبهًا
ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا كحال طرفة بن العبد (1) الشاعر الجاهلي حيث يقول: (2)
وَلَوْلَا ثَلَاثُ هنَّ مِنْ عِيشة الْفَتَى
…
وَجَدِّكَ لَم أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُودِي
فَمنْهُن سَبْقِي العَادِلَاتِ بِشَرْبَةٍ
…
كُمَيْتٍ مَتى مَا تُعْلَ بالمْاءِ تُزْيدِ
وَكَرِّي إِذَا نَادَى الفضَاف مُحَنَّبًا
…
كيد الْغَضَا نَبهتهُ المتَوَردِ
وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدجنِ وَالدَّجْن معْجِبٌ
…
بِبَهْكَنَةٍ تحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعمَّدِ (3)
كثير من الناس همّه من دنياه همّ هذا الشاعر المسكين، شربة خمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من النّاس تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف المستجير.
وقد يكون مسعى الناس ومطلبهم أمورا يعدّ طالبها سامي الهمّة عالي القصد كحال امرىء القيس (4)، عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانقلب جادّا طالبا إعادة هذا الملك (5):
فلو أَنَّ ما أَسْعى لِأدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفَانِي ولَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثّلٍ
…
وَقَدْ يدْرِك الْمَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
(1) طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، أشهر شعره معلقته التي هي إحدى المعلقات السبع، توفي شابا في البحرين سنة (60) قبل الهجرة. راجع الأعلام (3/ 324).
(2)
شرح المعلقات للزوزني ص 82، 83.
(3)
الجدّ: الحظ والبخت، والعوّد: جمع عائد من العيادة، والعاذلات: جمع عاذلة والعذل الملامة. والكميت اسم من أسماء الخمر فيها حمرة وسواد. والكر: العطف. والمحنّب: الذي في يده انحناء، والسيد: الذئب. والغضا: الشجر. وقصرت الشيء: جعلته قصيرا. والدجن: إلباس الغيم آفاق السماء. والبهكنة: المرأة الحسنة الخلق السمينة الناعمة. والمعمد: المرفوع بالعمد.
(4)
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، أشهر شعراء الجاهلية على الإطلاق يماني الأصل، مولده بنجد سنة (130) قبل الهجرة، وكان والده ملك غطفان، توفي سنة (80) في الهجرة.
راجع: (الأعلام 1/ 351).
(5)
عيون الأخبار (1/ 235).