المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اعتراضات أورد الشاطبي بعض الأدلة التي تدلّ على أنَّ المقاصد معتبرة - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولتحديدُ مَوضُوع البَحث

- ‌تعريف القصد

- ‌تعريف النيّة

- ‌الاشتقاق اللغوي:

- ‌النيَّة في الاصطلاح

- ‌1 - تعريف النية بالعزم والقصد:

- ‌2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة:

- ‌3 - تعريف النيّة بالإِخلاص:

- ‌4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته:

- ‌النيّة شرعًا

- ‌موقع النية من العلم والعمل

- ‌جنس النيّة في الموجودات

- ‌هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده

- ‌التكليف

- ‌مفهوم العبادة وحدودها

- ‌أصل العبادة ومبناها

- ‌العبادة في مصطلح الفقهاء

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المبحث الثانيالأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

- ‌أولاً: الأدلة القرآنية:

- ‌ثانيًا: الأحاديث النبوية:

- ‌ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري:

- ‌رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:

- ‌خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها:

- ‌سابعًا: تأثير النية فى الأعمال:

- ‌اعتراضات

- ‌المبحث الثالثفَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

- ‌1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله:

- ‌2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات:

- ‌3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:

- ‌4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:

- ‌5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات:

- ‌عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه:

- ‌هذا الحديث من جوامع الكلم:

- ‌البداءة به في المهمات:

- ‌6 - شرفت النيات بموجدها:

- ‌7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها:

- ‌8 - النيّات تميز الأعمال:

- ‌9 - المحوِّل العجيب:

- ‌10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية:

- ‌11 - تربية على اليقظة:

- ‌النية أفضل من العمل:

- ‌الباب الأولالنيات وما يتعلق بها من أحكام

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمَحَلّ النِّية

- ‌مَحَلّ النِّيَّة

- ‌حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

- ‌مناقشة القفال:

- ‌مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

- ‌الجهر بالنيّة

- ‌التلفظ بها همسًا

- ‌هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب

- ‌القصد المجرد عن العمل

- ‌مراتب الإرادة

- ‌الإِرادة غير الجازمة

- ‌لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة

- ‌الإِرادة الجازمة

- ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

- ‌أدلّة القائلين بالمؤاخذة

- ‌الفصل الثانيوَقت النّية

- ‌وقت النية في الطهارة

- ‌وقت النيّة في الصلاة

- ‌القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام:

- ‌القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير:

- ‌القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير:

- ‌تأخير النية

- ‌وقت نية الزكاة

- ‌وقت نيّة الصوم

- ‌تقديم النية في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌1 - القضاء والكفارة:

- ‌2 - صوم رمضان:

- ‌الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:

- ‌أدلتهم:

- ‌النيّة لكلّ يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

- ‌الليل كله وقت للنية

- ‌3 - صوم النذر

- ‌4 - صوم النفل

- ‌المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌الفصل الثالثصفة النِّيَّة

- ‌تمهيد

- ‌صفة نيّة الطهارة

- ‌إذا نوى مطلق الطهارة:

- ‌إذا نوى الغسل أو الوضوء:

- ‌إذا نوى المتطهر رفع الحدث:

- ‌إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها:

- ‌إذا نوى ما تستحب له الطهارة:

- ‌إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له:

- ‌إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها:

- ‌النية للتيمم

- ‌صفة النيّة في العبادات الواجبة

- ‌صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة

- ‌صفة النية في الصوم

- ‌صفة النيّة في الصلاة

- ‌نية الجماعة

- ‌نيّة القضاء والأداء

- ‌نية الجمع

- ‌صفة النية في النوافل

- ‌الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

- ‌قول أعجب وأغرب

- ‌الفصل الرابعشروط النِّيَّة ومبطلاتها

- ‌الشرط الأولأهلية من صدرت عنه النية

- ‌الوضوء والغسل والتيمم من الكافر

- ‌الزكاة من أهل الذمة

- ‌غسل الزوجة الكتابية

- ‌القربات التي أداها المسلم حال كفره

- ‌العبادة من غير المميز

- ‌حج الصغير الذي لا يميز

- ‌نيّة الصبي المميز

- ‌الشرط الثانيالجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

- ‌الشك

- ‌الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي

- ‌اختلطت ثياب طاهرة بنجسة

- ‌الشك في الصلاة التي فاتته

- ‌صيام يوم الشك

- ‌صيام الأسير

- ‌الشك في أصل النية

- ‌التردد في العبادة

- ‌تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما

- ‌الشرط الثالث‌‌استصحاب حكم النية

- ‌استصحاب حكم النية

- ‌رفض النية

- ‌رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌رفض نية العبادة في أثنائها

- ‌قلب النية وتغييرها

- ‌أقسام النيّة التي قلبت

- ‌الأول: نفل فرض إلى فرض:

- ‌الثاني: نقل فرض إلى نفل:

- ‌الثالث: نقل نفل إلى فرض:

- ‌الرابع: نقل نفل إلى نفل:

- ‌تغيير النيَّة

- ‌المنفرد يصبح إماما

- ‌الإمام يصبح مأموما

- ‌المأموم يصبح منفردا

- ‌المنفرد يتحوّل إلى مأموم

- ‌تغيير نية القصر إلى إتمام

- ‌اختلاف نيّة الإمام والمأموم

- ‌الأدلة النقلية

- ‌الاستدلال بالقياس:

- ‌الشرط الرابععدم التشريك في النيّة

- ‌الشرط الخامسأن تتعلق النية بمكتسب للناوي

- ‌الشرط السادسقصد العبادة دفعة واحدة

- ‌الشرط السابعمقارنة النيّة للمنوي

- ‌الشرط الثامنالعلم بصفات المنوي

- ‌الغلط في تعيين المنوي

- ‌الفَصل الخامسالنيَابة في النيَّة

- ‌تمهيد:

- ‌أدلّة الذين منعوا مطلقا

- ‌أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:

- ‌ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات:

- ‌ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

- ‌المجيزون مطلقا

- ‌موقفهم من حجج المانعين:

- ‌أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال:

- ‌موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:

- ‌موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

- ‌تحرير محلّ النزاع

- ‌أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها:

- ‌ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم:

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌حجج المانعين:

- ‌حجج المجيزين:

- ‌النظر في هذه الأدلة:

- ‌مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لَا يفتقِر إليَهَا

- ‌إزالة النجاسات

- ‌الأحداث التي تنقض الطهارة

- ‌النيّة في الوضوء والغسل

- ‌أدلة القائلين بعدم الوجوب

- ‌1 - أن الماء مطهر بطبعه:

- ‌2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية:

- ‌3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه:

- ‌4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية:

- ‌5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة:

- ‌6 - إطلاق النصوص:

- ‌7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة:

- ‌مناقشة الحجج التي أوردوها

- ‌أدلة الموجبين

- ‌أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل:

- ‌ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء:

- ‌ثالثا: القياس:

- ‌النيّة في التيمم

- ‌النيّة في الصلاة

- ‌النيّة في الزكاة

- ‌إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة:

- ‌صوم رمضان

- ‌النيّة في الحجّ والعمرة

- ‌النية في الاعتكاف

- ‌النية في الكفارات

- ‌النيّة لأعمال القلب

- ‌النيّة في الأقوال

- ‌السنة في التروك

- ‌حكم النيّة في العبادات

- ‌(ركن، أم شرط)

- ‌الباب الثانيالإخلاص

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

- ‌لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام

- ‌الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

- ‌الفصل الأولالغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

- ‌الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

- ‌شدة الإخلاص وصعوبته

- ‌لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

- ‌1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:

- ‌2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد:

- ‌3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه:

- ‌4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:

- ‌5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم:

- ‌حكم الإِخلاص في العبادات

- ‌الفصل الثانيمفهومات خاطئة للإخلاص

- ‌1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة

- ‌هل يمكن العمل بدون إرادة:

- ‌الفناء الحق:

- ‌2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

- ‌محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:

- ‌سرّ المسألة:

- ‌3 - قصد النعيم الأخروي

- ‌تنوّع المقاصد الخيّرة

- ‌الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

- ‌أولاً: اتباع الهوى

- ‌تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:

- ‌علاج الهوى

- ‌1 - تحويل الاتجاه:

- ‌2 - تقوية الإرادة:

- ‌3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا:

- ‌4 - محاسبة العبد نفسه:

- ‌ثانيًا: الرياء

- ‌ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين:

- ‌تعريف الرياء

- ‌الرياء لغة:

- ‌الرياء شرعًا:

- ‌الرياء والسمعة:

- ‌الرياء والعجب:

- ‌أسباب الرياء

- ‌الأمور التي يراءى بها

- ‌حكم العمل المراءى به

- ‌مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب:

- ‌شبهة وجوابها:

- ‌تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:

- ‌الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

- ‌الرياء بأوصاف العبادة

- ‌خفاء الرياء وتلونه

- ‌مزلق خطر

- ‌ترك العمل خوف الرياء

- ‌1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته:

- ‌2 - معرفة الرياء والتحرز منه:

- ‌3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:

- ‌4 - النظر في عواقبه الأخروية:

- ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

- ‌علامات القائم بالإِخلاص

- ‌ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

- ‌اعتراضات

- ‌رابعا: الهروب من العبادة

- ‌الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

- ‌الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

- ‌تأثير النيّة في المباحات

- ‌التوفيق بين الرأيين:

- ‌استحضار النية عند المباح:

- ‌تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة

- ‌الفرقة الأولى:

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثالثة:

- ‌التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

- ‌خاتمة القول

- ‌مُلحَقإيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات

- ‌تمهيد:

- ‌الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث

- ‌سبب الحديث

- ‌إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

- ‌كتب السنة التي أخرجته

- ‌هل أخرجه مالك في الموطأ:

- ‌طرق الحديث

- ‌مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

- ‌إشكالات أوردت على الحديث

- ‌1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا:

- ‌2 - أنّه حديث شاذ:

- ‌3 - أن فيه انقطاعا:

- ‌4 - أنه ليس حديثا فردًا:

- ‌5 - أنه متواتر:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌ ‌اعتراضات أورد الشاطبي بعض الأدلة التي تدلّ على أنَّ المقاصد معتبرة

‌اعتراضات

أورد الشاطبي بعض الأدلة التي تدلّ على أنَّ المقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات.

ثم أورد على نفسه دليلين يدلان على أنَّ المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق، وفي كلّ حال، ثم أجاب عما أورده.

الأول: الأعمال التي يجب الِإكراه عليها شرعا، فإن المُكْرَه على الفعل يعطي ظاهره أنَّه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع، إذ لم يحصل الإكراه إلاّ لأجله، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به، لأنَّ الفرض أن العمل لا يصح إلَّا بالنية المشروعة فيه، وهو لم ينو ذلك، فيلزم ألا يصحّ، وإذا لم يصحّ كان وجوده وعدمه سواء، فكان يلزم أن يطالب بالعمل ثانيا، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول، ويتسلسل، أو يكون الِإكراه عبثا، وكلاهما محال، أو يصحّ العمل بلا نيّة، وهو المطلوب (1).

وقد نصّ الفقهاء في أمور عدّة على ما قرّره الشاطبي هنا، فقد نص الشافعي (2) على أن للوالي أن يأخذ الزكاة من أهلها، ولو لم يكن لهم نيّة في دفعها إليه، يقول الشافعي في هذا الصدد:"وإذا أخذ الوالي من رجل زكاة بلا نيّة من الرجل في دفعها إليه أو بنيّته طائعا كان الرجل أو كارها، ولا نيّة للوالي الآخذ لها في أخذها من صاحب الزكاة أو له نية فهي تجزىء عنه"(3).

(1) الموافقات: (2/ 239).

(2)

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي، أحد الأئمة الأربعة، عالم واسع العلم في القراءات والفقه والحديث والشعر والأدب وأيام العرب، وهو واضع علم أصول الفقه، ولد بغزة سنة (150 هـ)، وحمل إلى مكه صغيرا، وقصد مصر في آخر عمره، وتوفي بها سنة (204 هـ).

(تهذيب التهذيب 9/ 25)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 377)، (طبقات الحفاظ ص 152).

(3)

الأم: (2/ 119).

ص: 72

وهذا الذي قرره يقول به جماهير العلماء، يقول المرداوي (1) من الحنابلة:"لا يجوز إخراج الزكاة إلَّا بنيَّة، إلاّ أن يأخذها الإمام قهرا، فإنَّها تجزىء عن ربها على الصحيح من المذهب. وقال المجد (2): هو ظاهر كلام الامام أحمد والخرقي لمن تأمله"(3).

ثانيا: الاعتراض الثاني الذي أورده الشاطبي مما يستدل به على أن المقاصد لا تعتبر في كل فعل: أن الأعمال ضربان: عادات وعبادات، فأما العادات فقد قال الفقهاء: إنّها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نيّة، بل مجرد وقوعها كاف، كرد الودائع والغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها.

وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها.

فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء، وكذلك الصوم والزكاة، وهي عبادات، وألزموا الهازل العتق والنذر، كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة.

وذكر أن في مذهب مالك فمن رفض النية في الصوم أثناء اليوم ولم يفطر أن صومه صحيح.

ومما أورده أيضا أن من الأعمال ما لا يمكن فيه الامتثال عقلا، وهو النظر الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع، والعلم بما لا يتم الإيمان إلاّ به؛ فإن قصد الامتثال فيه محال حسب ما قرره العلماء (4).

وقد أجاب الشاطبي عن هذين الاعتراضين بوجهين:

(1) هو علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، نسبة إلى (مردا)، قرية قرب نابلس بفلسطين، ولد بها سنة (817 هـ)، وانتقل إلى دمشق كبيرا، وتوفي بها سنة (885 هـ)، وهو من فقهاء الحنابلة، له كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)، و (تحرير المنقول)(شذرات الذهب 7/ 340)(الأعلام 5/ 104).

(2)

هو مجد الدين ابن تيمية جدّ شيخ الإسلام ابن تيمية.

(3)

الإنصاف: (3/ 196).

(4)

الموافقات: (2/ 239).

ص: 73

الوجه الأول: إجمالي بيّن عموم القاعدة، وعدم جواز تخلفها بحال.

والثاني: إجابة تفصيلية عن آحاد المسائل التي وردت في الاعتراض.

والوجه الأول بين فيه أنَّ المقاصد ضربان:

ضرب هو من ضرورة كلِّ فاعل مختار من حيث هو مختار، وهنا يصحّ أن يقال: إنَّ كلَّ عمل معتبر بنيّته شرعا، قصد به امتثال أمر الشارع أو لا، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية به، وعليه يدلّ ما تقدم من الأدلة، فإن كلّ فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا، مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، أو غير مطلوب شرعا، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين، فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة، فليس هذا النمط بمقصود للشارع، فبقي ما كان مفعولا بالاختيار لا بد فيه من القصد، وإذ ذاك تعلقت به الأحكام، ولا يتخلف عن هذه الكلية عمل البتة.

وعلى هذا فكلّ ما أورده الشاطبي في الاعتراضات لا يعدو هذين القسمين: فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل، أو غير ذلك، فينزل على ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه. وإمّا غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال، وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا التكليف، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة وإن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع (1)، كان الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا.

ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني: والضرب الثاني المقاصد التي هي من

(1) يعرف الأصوليون خطاب الوضع بأنه "خطاب الله تعالى بجعل الشيء سببا، أو شرطا، أو مانعا، أو صحيحا أو فاسدا، مثل جعل الدلوك سببا لإيجاب الصلاة، وجعل الوضوء شرطا لصحتها، وجعل الحيض مانعا من صحة الصوم، وجعل الصلاة صحيحة إذا توفرت شروطها وأتي بجميع أركانها".

ص: 74

ضرورة التعبديات، من حيث هي تعبديات، فإن الأعمال كلّها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا بالقصد إلى ذلك.

وهذا في الأمور التعبدية واضح، وفي العاديات لا تكون تعبديات إلاّ بالنيات.

ثم بيَّن أنَّه لا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلاّ النظر الأوّل، لعدم إمكانه، لكنّه- في الحقيقة- راجع إلى أنَّ قصد التعبد فيه غير متوجه عليه، فلا يتعلق به الحكم التكليفي كلية بناء على منع التكليف بما لا يطاق، لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله، بخلاف قصد التعبد بالعمل فإنَّه محال، فصار في عداد ما لا قدرة عليه، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا (1).

ثم أخذ الشاطبي يتكلم عن الوجه الثاني، وهو الوجه الذي يجيب فيه إجابة تفصيلية عن الاعتراضات التى أوردها.

وأهمّ هذه الاعتراضات أنَّ الحاكم ملزم شرعا بإكراه الناس، فكيف يجزىء عن المكره الفعل مع أنّه لا قصد له؟

وفي الجواب نحبُّ أن نفرق بين أمرين:

الأول: أنَّ العبادات من حيث هي أفعال صادرة من المكلفين لا تجزىء عنهم ما لم يؤدوها بقصد نابع من ذوات أنفسهم، فإن لم يؤدوها كذلك فلا تجزىء عنهم بحال.

وقد نقل ابن تيمية الِإجماع على أنَّ الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه (2).

(1) الموافقات: (2/ 241).

(2)

مجموع الفتاوى: (26/ 30).

ص: 75

وقد قال تعالى: {ومَا منعهُمْ أنْ تقبل مِنْهمْ نَفَقَاتهُم إلا أنَّهُمْ كفَروا بالله وَبِرَسُوله، وَلَا يَأتُونَ الصَّلاةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى، وَلَا ينْفِقُونَ إلَاّ وَهم كَارِهونَ} (1).

فقد نصَّ في هذه الآية على عدم قبول الصدقة من الكاره.

وقد نصَّ فقهاء الأحناف أنَّ المعتمد في المذهب عدم إجزاء أخذ الإمام الزكاة كرها، وإذا أخذت كرها لا يقع عن الزكاة، لكونها بلا اختيار (2).

ويقول الشاطبي: وما افتقر منها إلى نيّة التعبد فلا يجزىء فعلها بالنسبة إلى المُكْرَه في خاصة نفسه، حتى ينوي القربة (3).

الثاني: أن من واجب الدولة الِإسلامية أن تقيم شريعة الله، فإذا امتنع بعض الرّعية عن أداء الواجبات التي كلَّفهم الله بها، كالصلاة، والزكاة، والصوم، فمن واجبها إجبارهم على أدائها بالقوة، قال تعالى:{الّذِينَ إنْ مَكنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وآتَوا الزَّكَاةَ، وأَمَروا بالْمَعْرُوف، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر .. } (4)، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك:{خُذْ مِن أَمْوَالهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكَيهِمْ بِهَا} (5).

وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه أمر بقتال الناس حتى يؤدوا هذه التكاليف: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله"(6).

وواضح من النصّ أن عدم إقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة يبيح سفك دمائهم من قبل الحاكم.

(1) سورة التوبة: 54.

(2)

الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 22).

(3)

الموافقات (2/ 241).

(4)

سورة الحج: 41

(5)

سورة التوبة: 103.

(6)

رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فإنْ تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة} حديث (رقم 25) انظر فتح الباري (1/ 75)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، انظر النووي على مسلم (1/ 212).

ص: 76

ومن هنا همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت الذين لا يشهدون الجمع والجماعات، والهمّ لا يكون إلا لتركهم واجبا.

هذا واجب الدولة الِإسلامة أن تجبر بالقوة هؤلاء الذين يتهربون من أداء الواجبات، شاؤوا أم أبوا، وهذا يكفينا منهم، إذ لنا ظواهر الأمور، ولا نطالبهم بأكثر من هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلا خلاق لهم ما لم يؤدوها بنفس رضيّة إيمانا واحتسابا. يقول الشاطبي في هذا الموضوع:"لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم، فلا يطالبه الحاكم بإعادتها، لأنَّ باطن الأمور غير معلوم للعباد، فلم يطالوا بالشقِّ عن القلوب"(1).

ويشكل على هذا ما ذهب إليه الشافعي من أن المكرَه على أداء الزكاة من قبل الحاكم تجزىء الزكاة عنه، ولو أمكننا أن نفهم عنه أن هذا الإجزاء في ظاهر الأمر في الدنيا لما كان هناك إشكال (2)، لكنَّه في موضع آخر يبيّن أنَّ الإجزاء الذي يريده في الدنيا والآخرة، لأنه فرق بين الصلاة والزكاة في هذا الجانب، يقول في الأمِّ:"وإنما منعني أن أجعل النيّة في الزكاة كالنية في الصلاة لافتراق الصلاة والزكاة في بعض حالهما، ألا ترى أنّه يجزىء أن يؤدي الزكاة قبل وقتها، ويجزيه أن يأخذها الوالي منه بلا طيب نفسه، فتجزىء عنه، وهذا لا يجزىء في الصلاة"(3).

وقد حاول بعض أهل العلم توجيه قول الشافعي هذا زاعما أنَّ الشافعي يرى عدم وجوب النيّة في الزكاة، لأنها شبيهة بالغرامات المالية.

وهذا زعم مرفوض، وادعاء لا يقوم على دليل، فالشافعي ينص صراحة على وجوب النيّة في الزكاة، فهو يقول:"لما كان في الصدقة فرض وتطوع، لم يجز -الله أعلم- أن يجزىء عن رجل زكاة يتولى قسمها إلاّ بنية أنه فرض"(4).

(1) الموافقات (2/ 242).

(2)

وقد تأوله النووي على هذا النحو: المجموع (6/ 190).

(3)

الأم: (1/ 19).

(4)

الأم: (1/ 18).

ص: 77

وقد علَّل ابن حجر (1) سبب الإجزاء الذي يدلُّ عليه كلام الشافعي أنَّ السلطان قائم مقام صاحب المال (2).

والذي يظهر لي -والله أعلم- أنَّ الشافعيّ لا يرى أنَّ المكره الذي يمتنع من أداء الزكاة أصلا- يجزىء ذلك عنه، وإنِّما مراده به هنا ذلك الرجل الذي يريد الزكاة، ولكنَّه لا يريد أداءها إلى الحاكم بسبب ظلمه، أو لأنه يريد توزيعها بنفسه، فيكرهه السلطان على أدائها إليه هو، فهذا هو الذي تجزيه.

وقد تكلَّم الفقهاء في الزكاة التي يأخذها الخوارج هل تجزىء عن أربابها؟ ثالث الأقوال، أنَّها إن أخذت على وجه القهر والغلبة أجزأت عمَّن أخذت منه، وبه قال مالك (3)، وقد ادعى ابن بطال (4) الإجماع على أن أحذ الِإمام الظالم الزكاة مجزىء عمن أخذت منه (5).

وممن قال بعدم إجزاء الزكاة ممن أخذت مه قهرا فقهاء الأحناف، وجمع من الحنابلة منهم ابن عقيل (6)، والشيخ تقي الدين (7)، وقال: هذا هو الصواب (8).

(1) هو أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، علامة عصره في الحديث، انتشرت مصنفاته في حياته، وتهادتها الملوك والأكابر، ولي قضاء مصر مرات، ثم اعتزل، من مصنفاته:(فتح الباري شرح صحيح البخاري) ولد في سنة (773 هـ)، وتوفي سنة (852 هـ). (طبقات الحفاظ ص 547)(الأعلام 1/ 173).

(2)

فتح الباري (1/ 135).

(3)

هو مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة وعالمها، وأحد الأئمة الأربعة، مولده ووفاته في المدينة (93 - 179 هـ)، كان صلبا في دينه، بعيدا عن الأمراء والملوك، له كتاب (الموطأ)، وكتاب في (المسائل)، و (تفسير غريب القرآن). (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 3)، (طبقات الحفاظ ص89)، (الكاشف 3/ 112).

(4)

هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، عالم بالحديث من أهل قرطبة، له كتاب (شرح البخاري)، توفي سنة (449 هـ). (شذرات الذهب 3/ 283)، (الأعلام 3/ 283).

(5)

العيني على البخاري: (10/ 32).

(6)

هو علي بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي شيخ الحنابلة في وقته، كان قوي الحجة، أعظم تصانيفه (الفنون) في أربعمائة جزء، ولد في سنة (431 هـ)، وتوفي سنة (513 هـ).

(لسان الميزان 4/ 243)، (شذرات الذهب 4/ 35)، (الأعلام 5/ 129)

(7)

هو عبد الغني المقدسي الجماعيلي الحنبلي.

(8)

الإنصاف (3/ 196)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 22).

ص: 78

أما الجزئيات التي أوردها الشاطبي في الاعتراض الثاني فالجواب عنها من وجوه:

الأول: ليس معنى أن يخالف بعض العلماء في هذه الأمور أن تنخرم القاعدة بقولهم هذا، فقد حققنا في مبحث "الأفعال التي تفتقر إلى النية" ضعف حجة الذين قالوا بعدم وجوب النية في الوضوء والغسل، وشذوذ الذين قالوا بعدم وجوبها في الزكاة والصوم.

الثاني: أنّ بعض الذين قالوا بعدم وجوب النية في بعض الأفعال عدّوا هذه الأفعال من العاديات التي لا تلزمها النيّات، كأداء الديون ورد الغصوب، والودائع، فالعبد يبرأ بمجرد الردّ.

والأحناف جعلوا الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر مفتاحا للصلاة بمثابة اللباس واستقبال القبلة وبقية الشروط، وهي بذلك ليست عبادة، وقد نصوا على أنّها لا تكون عبادة إلاّ بالنيّة.

الثالث: أنّ من قال: إن الهازل يلزمه مقتضى قوله، ليس من باب عدم الاعتداد بالقصد والنيّة، ولكن عقوبة له بسبب هزله في هذه الأمور الخطيرة التي لا تصلح مجالا للهزل، وكثير من الفقهاء يرى أنَّ هذا من باب خطاب الوضع، فالتفريق بين الزوجين (سببه) لفظ الطلاق، فليس في الأمر (على هذا القول) عقوبة أصلا.

ص: 79