الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن أعين الناس.
ومع أننا لا نوافق الغزالي رحمه الله في كل ما ذهب إليه هنا إلا أننا لخصنا قوله كي يتبين لنا مدى خفاء الرياء، وأنه قد يخفى على الصالحين الذين يحذرون من الرياء، ويسعون إلى تجنبه.
ولما كان الرياء خفيا قد لا يدركه الأخيار رأينا أن نبين سبيل الوقاية منه.
مزلق خطر
ترك العمل خوف الرياء
قد يعالج بعض الناس خطأ فيقعون في خطأ مثله أو أشد منه، وتلك مشكلة عانى منها الناس قديما وحديثا.
أمرنا الله بالعبادة مخلصين له الدين، وفي النفس نوازع تدعونا إلى الميل عن صراط الإخلاص، فلما رأى الناس هذا اتجهوا اتجاهات مختلفة، فريق رام مجاهدة الرياء، حتى يقتلع جذوره، فلا يبقى في نفسه ميل إلى الرياء، ولا خاطر يدعو إليه، وهؤلاء طلبوا عظيما وراموا مستحيلا "فالناس لم يؤمروا أن يخرجوا وساوس إبليس أن تعترض في صدورهم، ولم يؤمروا بأن يغيروا خلقهم وطباعهم، حتى تصير لا تنازع إلى معنى من زينة الدنيا من رياء ولا غيره، حتى تكون طبائعهم الحمد فيها مكروه والذم فيها محبوب"(1)، لم يؤمر العباد بذلك أبدا، فهذا أمر غير مقدور، والله لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها، والجهود التي تبذل في غير مكانها جهود ضائعة، لا تعود على صاحبها بفائدة.
ونحن نلاحظ أن بعض الأمور التي دعانا الله إليها مكروهة للنفوس {كُتِبَ عَليْكُم الْقِتَال وهُوَ كُرْهٌ لكمْ} (2)، وبعض الأمور التي نهينا عنها محبوبة للنفوس:
(1) الرعاية ص 207.
(2)
سورة البقرة/ 216.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (1)، وقد يطلب الإنسان شيئًا من هذه الزينة التي حببت إليه من طريق حرام، وفي الحديث:"حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات".
فحب المعاصي من الرياء والشهوات لا إثم فيه، وكراهية فعل بعض المأمورات لا إثم فيه، وقد وضح ابن عبد السلام هذه المسألة فقال:"وليس حب الرياء ولا غيره من جميع المعاصي معصية، فإن أطلق عليه اسم الرياء كان ذلك مجازا من تسمية السبب باسم المسبب، وكل شيء حرمه الله تعالى فلا يأثم مشتهيه بشهوته وإنّما بعزمه عليه وإرادته، ثم بملابسته، وكل ما تكرهه الطباع، وتنفر منه القلوب والأسماع من الخيور والشرور، فلا إثم على كراهيته، ولا النفور منه، وإنما الإثم على فعله، إن كان قبيحا، أو تركه إن كان حسنا، فشهوة الرياء والشكر وقهر الأقران وإضرار الأعداء لا إثم فيها، لخروجها عن قدرة المكلف، ولتعذر الانفكاك والانفصال عنها، ومن استعمل شيئًا من المحبوبات في غير بابه فقد أخطأ وزل"(2).
الفريق الثاني: عمل عكس ما عمله هؤلاء، فعدما يدعى إلى فعل خير أو يسأل حاجة أو تدعوه النفس إلى عمل خير يعرض في نفسه عارض الرياء، فيخشى من هذا الخاطر أن يكون، فيعرض عن العمل خوف الرياء، وهذا هرب من شرٍّ ووقع فيما هو أشدَّ منه أو مثله، وقد تنبه العلماء الأعلام إلى هذا المزلق الخطر فحذروا منه.
يقول القاضي عياض: (3) "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس
(1) سورة آل عمران / 14.
(2)
قواعد الأحكام 1/ 148.
(3)
هو عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، عالم المغرب وإمام أهل الحديث فى وقته، كان عالما بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، ولد في (سبته) عام (476 هـ)، وولي قضاءها، وتوفي بمراكش عام (544 هـ)، من تصانيفه (شرح صحيح مسلم)، و (الشفا بحقوق المصطفى).
راجع: (تذكرة الحفاظ 4/ 1304)، (البداية والنهاية 12/ 225)، (طبقات الحفاظ ص 468).
شرك" (1)، يقول النووي معلّقا على كلام القاضي: "ومعنى كلامه رحمه الله تعالى: أن من عزم على عبادة، وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مراء، لأنَّه ترك العمل لأجل الناس، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب، إلاّ أن تكون فريضة أو زكاة واجبة
…
فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل" (2).
وترك العمل خوفا من الرياء حبالة من حبالات إبليس كما يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: "لإبليس في ذم الرياء حبالة، وذلك أنَّه ربَّ ممتنع من فعل خير أن يظن به الرياء"، ولذلك ينصح من طرقه مثل هذا ألا يتلفت إليه، وأن يمضي فيه إغاظة للشيطان:"فإذا طرقك منه مثل هذا فامض على فعلك، فهو شديد الألم عليه"(3).
ولو فعل إنسان هذا لأوشك إذا علم الشيطان بذلك أنْ يعترض له عند كل عمل بالخطرات بالرياء فيدع كل طاعة (4).
الفريق الثالث: الذين علموا أن الله ألزمهم بطاعته وعبادته، وأوجب عليهم أن يقاوموا أهواءهم، وأن يخلصوا دينهم لربهم، وهؤلاء نحتاج أن نبين لهم كيف يعالجون هذا المرض في نفوسهم، كي يكون سلاحا في أيديهم يقيهم من مداخل الشيطان.
(1) الرسالة القشيرية ص 9، شرح الأربعين ص 11.
(2)
شرح الأربعين النووية ص 11.
(3)
الأخلاق والسير ص 16.
(4)
قريب من هذه المسألة ما يقع لبعض الناس الذين ليس لهم عادة فى العبادة والتهجد وقراءة القرآن في الليل أو في أطراف النهار، فإذا صحب قوما هذا شأنهم انبعث إلى العبادة، ونشط، وقد يظن بعض الناس أن هذا رياء، وهذا ليس على إطلاقه كما يقول ابن قدامة، بل فيه تفصيل، ذلك أن المؤمن يرغب في عبادة ربه، ولكن تحول دون ذلك عوائق، وتستهويه الغفلة، فربما كانت مشاهدة الغير سبباً لزوال الغفلة، واندفاع العوائق، فإن الإنسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء، وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان غريب اندفعت عنه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة العابدين ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول: إذا عملت غير عادتك كنت مرائيا، فلا ينبغي أن يلتفت إليه؛ وإنما ينبغي أن يتلفت إلى قصده الباطن ولا يلتفت إلى وساوس الشيطان.
وبين لنا ابن قدامة سبيلا يختبر هذا وأمثاله فيه نفسه، وذلك بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإدا رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وإن لم تسخ وكان سخاؤها عندهم رياء، وقس على هذا (مختصر منهاج القاصدين ص 234).