الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك من حج وشرّك في حجه غرض المتجر، ويكون جلّ قصوده كلّه السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك أو غير مقصود، ويقع تابعا اتفاقا، فهذا أيضا لا يقدح في صحة الحج، ولا يوجب إثما ولا معصية. وكذلك من صام ليصح جسده، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم، ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك، وأوقع الصوم مع هذه المقاصد، لا يقدح في صومه بل أمر بها صاحب الشرع في قوله:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء" أي قاطع.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم لهذا الغرض، ولو كان ذلك قادحا لم يأمر به صلى الله عليه وسلم في العبادة.
ومن ذلك أن يجدد وضوءا ليحصل له التبرد أو التنظف.
قال: "وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي لتشريك أمور من المصالح، ليس لها إدراك، ولا تصلح للِإدراك، ولا للتعظيم، وذلك لا يقدم في العبادات".
وبعد هذا البيان قال: "فظهر الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات وبين قاعدة التشريك فيها غرض آخر غير الخلق مع أن الجميع تشريك، نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر وأن العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه ومن جهته حصل الفرق"(1).
تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:
عدم إدراك بعض العلماء للفرق الذي وضحه القرافي أوقعهم في خطأ بيّن
(1) الفروق 3/ 22.
سبب إشكالا عظيما، إذ حكموا على العبادات التي قصد بها العابد أمرًا أقره الشارع أو أمرا يتحقق ضمنا بالبطلان.
فمن ذلك ما ذكره المؤلف من الصوم للتداوي أو لمن لا يستطيع الزواج، أو الوضوء تبردا أو تنظفا، ومن أمثلته انتظار الإمام المأموم بإطالة الركعة أو الركوع، والتجارة في الحج والغنيمة في الغزو.
فقد نصّ ابن حزم رحمه الله في المحلَّى (1) على أنَّ الذي "خلط بنية الطهارة للصلاة نية التبرد أو غير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء، برهان ذلك قوله تعالي: {وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدينَ} (2)، فمن مزج بالنية التي أمر بها نيّة لم يؤمر بها فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك، وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به".
وممن ذهب هذا المذهب القرطبي، قال في تفسيره: "من تطهر تبردا، أو صام محمّا لمعدته، ونوى مع ذلك التقرب، لم يجزه، لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية، وليس لله إلاّ العمل الخالص كما قال تعالى:{أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (3)، وقال:{وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا الله مخْلِصينَ لَه الدّينَ} (4).
واستدلّ في موضع آخر بآية سورة هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (5) على أن من توضأ لتبرد أو تنظف لا يقع قربة من جهة الصلاة، وهكذا كلّ ما كان في معناه (6) ".
وحكى عدم إجزاء من قصد التبرد مع نيّة رفع الحديث النوويّ (7) والحطاب (8)، وضعَّفا القول بذلك.
(1) المحلَّى 1/ 76، 77.
(2)
سورة البينة / 5.
(3)
سورة الزمر/ 3.
(4)
سورة البينة / 5.
(5)
سورة هود /15.
(6)
تفسير القرطبي 5/ 180، 9/ 14.
(7)
المجموع 1/ 375.
(8)
الحطاب على خليل 1/ 235.
وفي انتظار الإمام المأموم في الركعة والركوع "قال بعضهم: أخاف أن يكون شركا، وهو قول محمد بن الحسن (1)، وبالغ بعض أصحاب الشافعي فقال: إنّه مبطل للصلاة"(2).
وقال النووي في المجموع: "قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأبو يوسف والمزني وداود: لا ينتظر الإمام حال ركوعه القادم كي يدرك الركعة، واحتج لهؤلاء بعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بالتخفيف، وبأن فيه تشريكا في العبادة .... "(3).
ونقل المزني هذا القول عن الشافعي، لأن هذا الانتظار يشوب الِإخلاص، ويذكر المزني أنه اطلع على رواية أخرى للشافعي يجيز ذلك، ومع هذا فقد رجح الأول (4).
وفي التجارة في الحج يقول ابن العربي: "وأما ألا يتجر فيه فهو مذهب الفقراء "يقصد الصوفية" ألا تمتزج الدنيا بالآخرة، وهو أعظم للأجر وأخلص في النية".
ومع ذلك فإنَّ ابن العربي لم يذهب هذا المذهب، ولم يقل بقولهم، ونص على مخالفته لهم في موضع آخر، قال:"والقصد إلى التجارة في الحج لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء، أن الحج دون تجارة أفضل"(5).
ولو انتبه هؤلاء العلماء الأعلام إلى القاعدة التي قررها القرافي، وأن هذا التشريك في العبادة لا يدخل في باب الرياء، لما وقعوا في هذا الإشكال الذي أوقع كثيرا من الناس في حيرة واضطراب.
(1) هو محمد بن الحسن الشيباني، سمع من أبي حنيفة ومالك والشافعي، والأوزاعي والثوري وأبي يوسف، وكان إماما في الفقه والعربية من كتبه:(المبسوط)، (الزيادات)، و (السير)، ولادته بواسط في العراق (131 هـ)، ووفاته بالري (189 هـ). راجع؛ (وفيات الأعيان 1/ 574).
(2)
نيل الأوطار 3/ 147.
(3)
المجموع 4/ 130.
(4)
مختصر المزني 1/ 113.
(5)
أحكام القرآن 1/ 118، 1/ 136.
ولقد وردت نصوص كثيرة تخالف ما ذهبوا إليه، ففي الحج يقول تعالى:{ليس عَلَيْكمْ جنَاح أَنْ تبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبكمْ} (1)، وقد صحَّ عن ابن عباس أن الآية نزلت عندما خاف المسلمون من الاتجار في أسواق الجاهلية في مواسم الحجّ، والحديث في صحيح البخاري، وفي رواية عن ابن عباس في سنن أبي داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم:"إن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون في منى وعرفات وذي المجاز ومواسم الحجّ، فخافوا البيع وهم حرم، فأنزل الله تعالى: {لَيْس عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج"(2).
وقد عقد العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام فصلا عنون له بقوله: "فصل في بيان أنّ الإعانة على الأديان وطاعة الرحمن ليست شركا في عبادة الديان وطاعة الرحمن"(3).
وقد جلّى رحمه الله هذه المسألة فقال: "إن قيل: هل يكون انتظار الإمام المسبوق لِيدركه في الركوع شركا في العبادة أم لا؟ قلت: (القائل العز) ظن بعض العلماء ذلك، وليس كما ظنَّ، بل هو جمع بين قربتين لما فيه من الإعانة على إدراك الركوع وهي قربة أخرى والإعانة على الطاعات من أفضل الوسائل عند الله
…
وليس لأحد أن يقول هذا شرك في العبادة بين الخالق والمخلوق، فإن الإعانة على الخير والطاعة لو كانت شركا ورياء، لكان تبليغ الرسالة وتعليم العلم والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر رياء وشركا، وهذا لا يقوله أحد، لأن الرياء والشرك أن يقصد بإظهار عمله ما لا قربة به إلى الله من نيل أغراض نفسه الدنية، وهو قد أعان على القرب إلى الله، وأرشد عباده إليه. ولو كان هذا شركا لكان الأذان وتعليم القرآن شركين، وقد جاء في الحديث الصحيح: أنَّ رجلا صلى منفردا فقال عليه السلام: "من يتجر على هذا"؟ وروي: "من يتصدق على
(1) سورة البقرة / 198.
(2)
تفسير القرطبي 7/ 58.
(3)
قواعد الأحكام 1/ 151.
هذا؟ (1). فقام وجل فصلى وراءه ليفيده فضيلة الاقتداء، ولم يجعله عليه السلام رياء ولا شركا لما فيه من إفادة الجماعة القربة إلى الله تعالى" (2).
وبين رحمه الله استحباب الانتظار: "وإذا أحس الإمام بداخل وهو راكع فالمستحب أن ينتظره لينيله فضيلة إدراك الركوع، ولا يكون ذلك شركا ولا رياء، لأنه عليه السلام جعل مثله صدقة واتجارا، وأمر به في جميع الصلوات، فكيف يكون رياء وشركا، وهذا شأنه في الشريعة! ولا وجه لكراهية ذلك، ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف، هل كان شركا ورياءً أو عملا صالحا لله تعالى؟! "(3).
ومما يزيد الأمر وضوحا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصّر الصلاة إذا سمع بكاء صبي مع عزمه في أولها على التطويل، ففي الحديث المتفق عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريدُ أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وَجْد أمه لبكائه"(4).
ومالك بن الحويرث (5) كان يصلي بالنّاس ما يريد بصلاته إلاّ أن يعلم الناس (6).
وعقد المجد ابن تيمية (7) في كتابه المنتقى بابا قال في: "باب إطالة الإمام الركعة الأولى، وانتظار من أحس به داخلا، ليدرك الركعة".
(1) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 30): رواه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي.
(2)
قواعد الأحكام (1/ 151).
(3)
المصدر السابق.
(4)
قال محقق صحيح الجامع (2/ 2274): "رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه".
(5)
هو مالك بن الحويرث بن حشيش بن عوف أبو سليمان الليثي، صحابي نزل البصرة، وتوفي بها سنة (74 هـ)، راجع: تهذيب التهذيب 10/ 15، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 4).
(6)
صحيح البخاري: انظر فتح الباري (2/ 163).
(7)
هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر جد شيخ الإسلام ابن تيمية فقيه حنبلي أصولي محدث، ولد بحران (590 هـ)، له:(المحرر فى الفقه)، و (منتهى الغاية)، توفى سنة 652 هـ. راجع (معجم المؤلفين 5/ 227).