الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلّة القائلين بالمؤاخذة
قبل أن نذكر أدلتهم نقول: إن مرادنا بالإرادة الجازمة ما نسمّيه القصد والنية، والعزم.
والإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم.
ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة، ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة. وبعض النّاس قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل، وهذا لا يكون. وإنَّما يكون في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئًا في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لا بد عند وجوده من حدوث تمام الِإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإِرادة الجازمة.
وقد استدل القائلون بالمؤاخذة على القصد الجازم الذي لا فعل معه بأدلَّة كثيرة تدل على أنه بمنزلة الفاعل التامّ في الإثابة والعقوبة، ومن هذه الأدلّة:
1 -
قال القرطبي: "استدلّ بهذه الآية على أنَّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم"(2)(3).
(1) سورة القلم (17 - 20).
(2)
تفسير القرطبي (18/ 241).
(3)
وعندى فى الاحتجاج بهذه الآية نظر، لأن هؤلاء تكلموا بما عزمرا على فعله {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} ، (سورة القلم: 17) والذي فيه البحث هو الهم الذي لا كلام ولا فعل معه، فأما العزم الذي حصل معه كلام كفعل هؤلاء فلا يدخل في دائرة البحث.
2 -
قوله عليه السلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنّه كان حريصا على قتل صاحبه"(1).
قالوا: دلَّ الحديث على المؤاخذة بالعزم على الفعل، لأن الرجل المقتول لم يقع منه فعل القتل، ولتعليل الرسول صلى الله عليه وسلم "إنه كان حريصا على قتل صاحبه"(2).
3 -
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (3).
قال المخالفون: لا حجّة في هذه الآية، لأنَّها نسخت بقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إلاّ وُسْعَهَا} (4)، وقد قال بذلك جمع من الصحابة، ومما يوضح ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (5)، قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا، وأطعنا، وسلَّمنا قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى:{لا يكلِّفُ الله نَفْسَا إلاّ وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَتْ} (6).
ورواه مسلم عن أبي هريرة بأوفى من رواية ابن عباس.
والصحيح أن هذا بيان وليس بنسخ، وهذا قول ابن عباس، والحسن
(1) عزاه التبريزي في المشكاة (2/ 282) إلى البخاري ومسلم.
(2)
وهذا الحديث لا حجة فيه أيضا، لأنه اقترن بعزم القتيل فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح، وإشارته به إلى الآخر، فخرج عن دائرة العزم المجرد.
(3)
سورة البقرة: 284.
(4)
سورة البقرة: 286.
(5)
سورة البقرة: 284.
(6)
صحيح مسلم، وانظره بشرح النووي (2/ 146).
البصري (1)، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري.
قال ابن عطية: "وهذا هو الصواب، ذلك أنَّ قوله تعالى: {وإنْ تبدُوا مَا في أَنْفُسكمْ أَوْ تخْفُوه} معناه: مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر. فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصّصها ونص على حكمه: أنّه لا يكلف نفسا إلاّ وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب، وليست مما يكتسب"(2).
4 -
رتَّب القرآن الثواب والعقاب على مجرد الإرادة، كقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} (3).
5 -
قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (5).
فالله نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد والقاعد العاجز، بل يقال دليل الخطاب (6) يقتضي مساواته إياه، ولفظ الآية صريح فقد استثنى (أولي الضرر) من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولي الضرر يساوون المجاهدين.
(1) هو الحسن بن يسار، إمام البصرة وعالمها، أحد الفقهاء العلماء الفصحاء الشجعان، تابعي ناسك، له مواقف مشهورة مع الحكام والولاة، حياته من (21 هـ)، إلى (110 هـ).
ترجمته في (تهذيب التهذيب 2/ 263)، (الكاشف 1/ 220)، (طبقات الحفاظ ص 28).
(2)
تفسير القرطبي (3/ 422).
(3)
سورة هود (15، 16).
(4)
سورة الشورى (20).
(5)
سورة النساء (95).
(6)
دليل الخطاب ما يقتضيه اللفظ عند الإطلاق.
وممّا يدلّ على ذلك صراحة قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة تبوك: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"، فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يَحْبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة.
وما أحسن قول القائل:
يَا سَائِرينَ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ
…
سِرْتُمْ جُسومَا وَسِرْنا نَحْنُ أَرْواحَا
إِنّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدَرٍ
…
وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عذْرٍ فَقَدْ رَاحَا (1)
6 -
قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون} (2)، قال القرطبي: "الإِصرار العزم بالقلب على الأمر وترك الإِقلاع عنه.
وقال قتادة: "الإصرار الثبوت على المعاصي"(3).
وقال ابن المبارك (4): "المصر الذي يشرب الخمر اليوم، ثم لا يشربها إلى شهر، وفي رواية إلى ثلاثين سنة، ومن نيته إذا قدر على شربها شربها"(5).
والآية دليل على أنَّ الإِنسان يؤاخذ بما وطَّن عليه ضميره، وعزم عليه بقلبه، فالِإصرار معصية اتفاقا، فمن صمَّم على المعصية كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية، قال النووي:"وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر"(6).
(1) أضواء البيان (1/ 327).
(2)
سورة آل عمران (135).
(3)
تفسير القرطبي (4/ 211).
(4)
هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي أحد الأئمة الأعلام.
قال ابن معين: كان ثقة عالما مثبتا صحيح الحديث، وكانت كتبه التي حدث بها عشرين ألفا، مات منصرفا من الغزو سنة (181 هـ)، وله (63) سنة.
راجع: (تهذيب التهذيب 5/ 382)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 93)، (الكاشف 2/ 123)، (طبقات الحفاظ ص 117).
(5)
مجموع الفتاوى (10/ 743).
(6)
فتح الباري (11/ 327).
7 -
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1).
نقل القرطبي عن جماعة من أهل التأويل أنهم احتجوا بالآية على أنَّ الإنسان يعاقب بما ينويه وإن لم يفعله (2)(3).
8 -
استدل النووي رحمه الله بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (4)، حيث رتَّب الله العذاب على فعل القلب وهو مجرد حبِّ إشاعة الفاحشة، والقصد فعل قلبي كالحبّ، يقول الكرماني:"إنَّ النية السيئة يعاقب عليها بمجرد النيّة، لكن على النية لا على الفعل، حتى لو عزم أحد على ترك الصلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال، لأن العزم من أحكام الِإيمان، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة"(5).
9 -
حديث سهل بن حنيف (6) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"(7).
فهذا ينال أجر الشهيد لنيته الجازمة على الفعل، وإلا فمجرد القول إذا كان من غير إرادة جازمة لا يكفي في حصول هذا الثواب.
10 -
قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي كبشة الأنماريّ: "إنما الدنيا لأربعة نفر:
(1) سورة الحج (25).
(2)
تفسير القرطبي (12/ 35).
(3)
والمانعون للاحتجاج بالآية يخصونها بالحرم المكي، ويقولون: هذه الآية ليست نصا في الموضوع.
(4)
سورة النور (19).
(5)
الكرماني على البخاري (1/ 20 - 21).
(6)
هو سهل بن حنيف بن واهب بن عكيم الأنصاري أبو ثابت المدني البدري، شهد المشاهد كلها، قال البخاري: بايع تحت الشجرة، وكان عقيما لا يولد له، توفي سنة (38 هـ).
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 426)، (تهذيب التهذيب 4/ 251)، (الكاشف 1/ 407).
(7)
رواه مسلم (مشكاة المصابيح 2/ 352).
عند رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربَّه، ويصل رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل.
وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء.
وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل.
وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أنَّ لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء" (1).
فهذا فمن كانت إرادته جازمة على الفعل إذا قدر على مثل ما قدر عليه صاحب المال، وإلّا إذا لم تكن النيّة جازمة، وعلم الله منه ذلك، فلا ينال ذلك الأجر الذي يحصله صاحب المال المنفق المتصدِّق، يؤيده قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (2).
11 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقوم يصلي من اللّيل، فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه"(3).
فقد أثاب الله هذا النائم الذي لم يَصْحُ -لمّا عزم على القيام- إثابة الذي قام فصلى، وما ذلك إلاّ لإرادته التامة الجازمة.
12 -
أن الإثابة والعقوبة على الأفعال المتولدة من فعل العبد:
(1) رواه أحمد، (4/ 230، 231)، والترمذي (كتاب الزهد 17) قال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه (2/ 1413).
(2)
سورة التوبة (75 - 76).
(3)
حديث حسن: رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
ومما يؤكد هذه المسألة أن الشارع يعاقب ويثيب على الأفعال المتولدة من فعل العباد، ففي الصحيحين أنَّه قدم وفد من مضر فقراء ظهرت على أجسادهم آثار الجهد، فآلم الرسول صلى الله عليه وسلم حالهم، فخطب في المسلمين حاثّا إيّاهم على الصدقة، فتباطأ الصحابة، فجاء رجل بصرة -في صحيح مسلم عين أنها من فضة- كادت كفّه أن تَعْجِزَ عن حملها، بل قد عجزت، فأثر هذا في نفوس الصحابة فانطلقوا يأتون مما عندهم، حتى اجتمع عند الرسول صلى الله عليه وسلم كومان من مختلف الأشياء: نقود، وطعام، وثياب
…
، فقال صلى الله عليه وسلم:"من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(1).
والداعي إلى الهدى أو الضلالة لما كانت إرادته جازمة في دعوته فإنّ له من الأجر مثل أجور من تابعه، لا ينقص من أجورهم شيء، وعليه مثل أوزار من تابعه، لا ينقص من أوزارهم شيء، يقول صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن يناقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(2).
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (3).
(1) رواه مسلم، انظر النووي على مسلم (7/ 102)، ورواه النسائي كتاب (الزكاة 64)، وأحمد في مسنده (4/ 357، 359، 360).
(2)
رواه مسلم (مشكاة المصابيح 1/ 56).
(3)
سورة العنكبوت (12 - 13).
فأخبر أن أئمة الضلال في يوم القيامة لن يفوا لأتباعهم بما تعهدوا به من حمل خطاياهم وذنوبهم، وأخبر أنَّ أئمة الضلال سيحملون آثام الذنوب التي ارتكبوها، وسيحملون أثقالا مع أثقالهم، وهي أوزار الاتباع الذين أضلوهم، لأن إرادتهم كانت جازمة بذلك، وفعلوا مقدورهم، فصار لهم جزاء كلّ عامل.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: "فإن توليت فإن عليك إثْم الأرّيسيِّين"(1)، لأن هرقل إمامهم المتبوع في دينهم، فتولّيه عن الحقِّ سبب في بقائهم على ضلالهم.
بل يذهب الِإسلام إلى أبعد من ذلك في الإثابة والعقاب على القصد المجرد، إذ يعتبر الراضي بالفعل كالفاعل وإن لم يعمله ويقصده.
يقول القرطبي عند قوله تعالى عن اليهود: {وقَتْلَهُمُ الأنْبياءَ بغيْر حَق} (2)، أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق، أي رضاءهم بالقتل والمراد قتلَ أسلافهم الأنبياء، لكن لما رضوا بذلك صحت الِإضافة إليهم.
وحسَّن رجل عند الشعبي (3) قتل عثمان بن عفان (4)، فقال له الشعبي: شركت في دمه (5). فجعل الرضا بالقتل قتلا، رضي الله عنه (6).
ثم قال القرطبي: "وهذه مسألة عظيمة حيث يكون الرضا بالمعصية معصية،
(1) صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 31)، و (الأريسيين: جمع أريس وهو الفلاح، فتح الباري 1/ 39).
(2)
سورة آل عمران (181).
(3)
هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، راوية من التابعين يضرب المثل بحفظه، من رجال الحديث الثقات، كان فقيها شاعرا ولد وتوفي بالكوفة (19 - 103 هـ).
ترجمته في (تهذيب التهذيب 5/ 65)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 22)، (طبقات الحفاظ ص 32).
(4)
هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ذو النورين، ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، جواد كريم، منفق معطاء، جهَّز جيش العسرة، وجمع القرآن توفي في المدينة شهيدا سنة (35 هـ).
(خلاصه تذهيب الكمال 2/ 219)، (الكاشف 2/ 254)، (طبقات الحفاظ ص 4).
(5)
أي في الإثم والعقوبة في الآخرة، لا في القصاص في الدنيا.
(6)
تفسير القرطبي (4/ 294).
وقد روى أبو داود عن العرس (1) بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها -قال مرة: نكرها- كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها"(2).
(1) العرس بن عميرة الكندي قيل أن له صحبة، قيل عميرة أمه، واسم أبيه قيس.
(الاستيعاب 3/ 1062)، (الكاشف 2/ 260)، (تقريب التهذيب 2/ 260).
(2)
تفسير القرطبي (4/ 294).