الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووضّح الغزالي هذا في الإحياء، فقال:"النية إنما مبدؤها من الإيمان، فالمؤمنون يبدأ لهم من إيمانهم ذكر الطاعة، فتنهض قلوبهم إلى الله من مستقر النفس، فإن قلوبهم مع نفوسهم، وذلك النهوض هو النية"، ثم بيّن أنَّ أقواما لا يحتاجون إلى النيّة، لأنهم صاروا إلى حال فوق ذلك، فقال:"وأهل اليقين جاوزوا هذه المنزلة، وصارت قلوبهم مع الله مزايلة لنفوسهم بالكليّة، ففرغوا من أمر النيّة، إذ هي النهوض، فنهوض القلب من معدن الشهوات والعادات إلى الله تعالى بأن يعمل طاعة وهو بنية، والذي صار قلبه في الحضرة الأحديَّة مستغرقا محال أن يقال نهض إلى الله في كذا وهو ناهض بجملته مستغرق في جزيل عظمته، قد رفض ذلك الوطن الذي كان موطنه وارتحل إلى الله"(1).
وهذا الذي نقلناه عن هؤلاء يحتاج إلى تمحيص وبيان.
هل يمكن العمل بدون إرادة:
الأمر الأول الذي يحتاج إلى تمحيص هو دعوى إمكان العمل بغير إرادة، هل يمكن ذلك؟ لقد تخيّل بعض النَّاس أن ذلك ممكن، وظنُّوا أنَّ كمال العبد ألّا تبقى له إرادة أصلا، ولعل السب في خطئهم أنهم لم يثسعروا بإرادتهم لفرط تعبدهم، فالإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر، فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها، وهذا غلط، فالعبد لا يتصور أن يتحرك إلا عن إرادة وهمّ.
وقد يريد بعض العباد والسالكين بالتجرد عن الإرادة قصد الله وحده والتوجه إليه دون سواه، والفناء في ذلك بحيث لا يشهدون سواه، ويسمّون هذا (الفناء عن شهود السوي)، وواقع الأمر أنَّ شدّة انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته سبَّب للقلوب ضعفا عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد، فلا يخطر بقلوبهم غير الله، كما قيل في قوله تعالى:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (2) قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر
(1) إحياء علوم الدين.
(2)
سورة القصص/ 10.
موسى، ومثل هذا يحدث لمن فجأه أمر شديد من حب أو خوف أو رجاء، فإن القلب يبقى منصرفا عن كلّ شيء إلاّ عما قد أحبّه أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغرافه في ذلك لا يشعر بغيره.
وعندما يقوى هذا الحال عند السالكين يغيب الواحد منهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبّدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وفي مثل هذه الحال يضعف المحبّ ويضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه.
وهذا الموضع زلّ فيه أقوام، وأكابر الأولياء كأبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يقعوا في مثل هذا، فضلا عمّن هم فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة.
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الِإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يحصل لهم غشي أو صعق أو فناء أو منكر أو وَلَة أو جنون، وإنَّما كان مبادىء هذه الأمور في التابعين من عبّاد البصرة، فإنّه كان فيهم من يُغشى عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت.
وصار في بعض العبّاد والنساك بعد ذلك من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط منه.
وهذه الأحوال ليست كمالا بحال من الأحوال، فالكمال هو قصد الله وحده دون سواه، مع بقاء العلم والتمييز، بحيث يعرف القاصد الأمور على ما هي عليه، والكمال لا يقتضي أن يغيب العبد عن مشاهدة المخلوقات، بل يشهدها قائمة بأمر الله، مدبَّرة بمشيئته مستجيبة له قانتة له، فيكون للعباد فيها تبصرة وذكرى، ويكون
ما يشهدونه من ذلك مؤيدا وممدّا لما في قلوبهم من إخلاص الدّين، وتجريد التوحيد لله:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1).
وحسبنا أن نعلم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السموات العلا، وعاين هناك ما عاينه من الآيات، وأوحى الله إليه ما أوحى من أنواع المناجاة، وأصبح في غداة تلك الليلة في مكة، لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ما يظهر على العباد حال الذكر والمناجاة، ولا غابت عنه المخلوقات حال عروجه.
وقد أخطأ بعض السالكين خطأ قريبا من هذا، فظن أنَّ الطريقة الكاملة للعبد ألّا تكون له إرادة أصلا، وأن مرادهم هو ما يقدره الرب، ويرون أن هذا هو القيام بالحقيقة العظمى، وقالوا: إن هذا النهج يجمع على المرء قلبه، فلا تتفرق به السبل، لأنَّه لا يرى للمخلوقات أفعالا، ولا يرى إلاّ الله وحده، وهؤلاء يتناقضون، فقد يقع من العبد الفسق والفجور والقتل وغير ذلك مما أذن الله في كونه وقدره، ولكنَّه كرهه من العبد وأبغضه، فكان لا بد للعبد من أن ينظر إلى الأمور لا من حيث هي مقدّرة كائنة، بل من حيث كونها مأمورا بها أو منهيا عنها، فيريد العبد ما أمر به، ويقصر عما نُهي عنه، فالمريد ما قدر عليه، سيقع في المحرمات، ويترك الواجبات، ثم يزعم أنه قائم بالحق، لأن هذا فعل الله فيه، لا فعله هو، وما دام الأمر كذلك فلا تثريب عليه، وهذا ضلال وبُعْد عن الحق. فليس الحقّ في ألا يريد العبد شيئًا، ولا أن يريد كلّ ما هو واقع وكائن، بل يريد مراد الله، ويحبّ ما أحبه.
(1) سورة آل عمران / 190 - 191.