الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم العبادة وحدودها
هذا الكون الذي نعيش فيه معبد رحب، تتجاوب جنباته بالتسبيح لخالقه ومنشئه.
فالأرض والسماء وما فيهما وما بينهما كل ذلك مستسلم خاضع لله المبدع الموجد، قال تعالى:{بَلْ لَهُ مَا في السَموَاتِ واْلأرْض كلٌّ لَه قَانِتُون} (1) وقال: {أَفَغَيْرَ دِين الله يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ منْ فِي السموَاتِ والَأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا وإلَيْهِ يرْجَعُونَ} (2). وهم -مع استسلامهم لربهم- يسجدون: {ولله يَسْجُدُ مَنْ في السَمواتِ وَاْلأرْضِ طَوْعًا وكَرهًا وظِلَالُهُمْ بِالْغُدو واْلآصَالِ} (3) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السموَاتِ ومَنْ فِي الأرْضِ، والشمْسُ وَالقَمَر والنجُوم وَالْجبَال، والشَّجَرُ والدوَاب، وَكَثير مِنَ الناس، وَكَثِير حَق عَلَيْهِ الْعَذابُ} (4).
ومع الاستسلام والسجود تسبيح وتقديس: {أَلَمْ تَرَ أَنّ الله يُسَبِّحُ لَه مَنْ فِي السمَوَاتِ والأرْض، والطيْر صَافَاتٍ كلٌّ قدْ عَلِمَ صَلَاتَه وتَسْبيحَهُ} (5). ولكننا نجهل كيف تسبح هذه العوالم {تُسِّبح لَهُ السمَوَات السبْعُ والأَرْضُ وَمَنْ فِيْهنَّ، وإنْ مِنْ شَيْءٍ إلَا يُسَبحُ بحَمْدِهِ، وَلَكِنْ لَا تفقهونَ تَسْبِيحَهُمْ} (6) والإنسان في هذا
(1) سورة البقرة / 116.
(2)
سورة آل عمران / 83.
(3)
سورة الرعد / 15.
(4)
سورة الحج / 18.
(5)
سورة النور / 41.
(6)
سورة الإسراء / 44.
الكون عالَمٌ من هذه العوالم التي أوجدها الله سبحانه لتعبده وتتوجه إليه، قال تعالى:{وَما خَلَقْتُ الجن والإنْس إلاّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ منْ رِزْقٍ، وَمَا أرِيد أَنْ يطْعِمُونِ، إن الله هُوَ الرزّاق ذُو القُوةِ الْمَتِينُ} (1).
فالعبادة هي غاية الوجود الإنساني (2)، بل الكون كله ما وجد إلاّ لذلك، فحريٌّ بنا أن نبذل وسعنا في التعرف على مفهوم هذه العبادة التي من أجلها خلقنا.
ونحن عندما نحاول الكشف عن حقيقة العبادة يجب عينا أن نتوجه إلى كتاب ربِّنا وسنة نبينا، كي نتعرف من خلالهما على مفهوم العبادة، فما أنزل الله الكتب، ولا أرسل الرسل، إلاّ ليعرف الناس بالغاية التي خلقوا من أجلها، والسبيل الذي يحققون به تلك الغاية.
والناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد أن مدلول العبادة فيهما شامل لا يقتصر على الفرائض، فالحياة في منهج الله وِحْدَة، كل ما فيها لله، والإسلام لا يفصل بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ولا يفرق بين الفرائض والسلوك، ويجعل كل حركة في حياة المسلم وثيقة الصلة بعقيدته، كي يتوجه بها إلى ربه، منفذا أمره، ومحققا رسالته، قال تعالى:{قل إنَّ صَلاتِي وَنسُكي وَمَحيايَ وَمَمَاتِي لله رب العَالَمِيْنَ، لا شَرِيْكَ لَهُ وَبذَلِك أمِرْت، وأَنَا أولُ الْمسلِمينَ} (3).
والذي حققه ابن تيمية "أن العبادة: اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"(4).
ويزيد الأمر وضوحا بيان أنواع العبادات: "فالصلاة والزكاة والصيام والحجّ، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر
(1) سورة الذاريات / 56 - 58.
(2)
يوجد فرق بين عبادة الإنسان، وعبادة بقية الكون، فالكون مسخر يعبد ربه بلا كلفة، والإنسان عبادته باختيار وعناء.
(3)
سورة الأنعام / 162 - 163.
(4)
البرية (ص 38).
بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والِإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة" (1).
ويعدّ من العبادة أيضا: "حب الله ورسوله، وخشية الله والِإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك"(2).
ويتوسع في معنى العبادة فيعد منها كل ما أمر الله به عباده من الأسباب، واستدلّ على ذلك بأن القرآن يقرن العبادة بالتوكل:{فَاعبدْهُ وَتَوَكَلْ عَلَيْهِ} (3)، وقال تعالى:{قُلْ هًوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَاّ هوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتَابِ} (4)(5).
فالدين -على ذلك- كله داخل في العبادة.
والدّين منهج الله جاء ليسع الحياة كلَّها، وينظم جميع أمورها: من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب، ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية، وأحكام شرعية تتناول جواب شتى من الحياة، وفي سورة واحدة هي سورة البقرة نجد مجموعة من التكاليف كلّها جاءت بصيغة واحدة:{كُتِبَ عَلَيْكمْ} ، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة: قال تعالى {يَا أيُهَا الَّذِينَ آمُنوا كتِبَ عَلَيْكمُ القِصَاصُ في القَتلَى} (6).
(1) العبودية (ص 38)،
(2)
العبودية (ص 38).
(3)
سورة هود / 123.
(4)
سورة الرعد / 30.
(5)
العبودية (ص 73).
(6)
سورة البقرة / 178.
وقال: (يَا أيها الَّذِينَ آمنوا كتبَ عَليْكم الصِّيام} (2).
قال: {كُتِبَ عَلَيْكم القِتَالُ وَهُوَ كره لَكمْ} (3).
فهذه الأمور كلها: من القصاص، والوصية، والصيام، والقتال - مكتوبة من الله على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها.
وبهذا البيان تتضح لنا حقيقة مهمة، لا زال كثير من المسلمين يجهلها، فبعض الناس لا يفهم من كلمة العبادة إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أنَّ لها علاقة بالأخلاق والآداب، أو النظم، أو القوانين، أو العادات، والتقاليد (4).
إنَّ عبادة الله ليست محصورة في الشعائر التعبدية كما يفهم بعض الناس، والذين يقومون بهذه الشعائر فحسب لم يفوا العبادة حقها، ولم يقوموا بواجبهم كاملاً (4).
إنَّ الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة .. لها أهميتها ومكانتها، ولكنها ليست العبادة كلها، بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إنَّ مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان، أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع النّاس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإِسلامية، يفعل ذلك طاعة لله واستسلاما لأمره. وشعار المسلم ما أرشد الله إليه في قوله: {إنمَا كان قَوْل الْمُؤْمِنينَ إذَا دُعُوا إلَى الله وَرَسولِهِ ليِحْكُمَ بَيْنَهمْ
(1) سورة البقرة / 180.
(2)
سورة البقرة / 183.
(3)
سورة البقرة / 216.
(4)
العبادة في الإسلام (ص 52).
أنْ يَقولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنَا، وأولئِك همُ المُفْلِحُونَ} (1). ذلك أنَ العبد ليس له خيار إذا قضى مولاه قضاء، أو وجهه وجهة معينة:{وَمَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قضَى الله وَرَسُوله أَمرًا أنْ يَكُونَ لَهُم الخِيَرَة مَنْ أمرِهِمْ} (2).
والاحتكام إلى شرع الله، والانقياد إلى أحكامه من العبادة، ففد أخبر القرآن أنّ أهل الكتاب:{اتخَذُوا أَحبارَهمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابا مِنْ دُونِ الله والْمَسِيِح ابنَ مَرْيَمٍ، وَمَا أُمرُوا إلاّ ليَعبدُوا إلَهًا واحِدًا، لا إلَهَ إلَا هُوَ، سبحَانه عَما يشْرِكونَ} (3).
وقد فسَّر الرسول صلى الله عليه وسلم الاتخاذ هنا بمتابعة الأحبار والرهبان في تحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال.
روى الِإمام أحمد والترمذي وابن جرير (4) -من طرق- عن عدي بن حاتم (5) رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، وأسرت اخته وجماعة من قومه، ثم مَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الِإسلام، وفي القدوم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة
(1) سورة النور / 51.
(2)
سورة الأحزاب / 36.
(3)
سورة التوبة / 31.
(4)
هو محمد بن جرير الطبري، كان بحرا في التفسير، والتأريخ، ومعرفة الخلاف، وعلوم الدين، مجتهدا لا يقلد أحدا، وكتابه في التفسير خير كتاب يقتنى في هذا العلم، ولد في (آمل) بطبرستان سنة (224 هـ)، وتوفي ببغداد سنة (310 هـ). (طبقات الحفاظ ص 307)، (شذرات الذهب 2/ 260)، (الأعلام 6/ 294).
(5)
هو عدي بن حاتم الطائي، سيد قبيلة طيء في الجاهية والإسلام، صحابي كريم، وشجاع جواد، ولد بأرض طيء، وتوفي بالكوفة سنة (68 هـ).
(الاستيعاب 3/ 1057)، (الكاشف 2/ 259)، (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 223).
-وكان رئيسًا في قومه، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة- وهو يقرأ هذه الأية:{اتخَذوا أحْبَارَهُمْ وَرهابنَهمْ أَرْبَابَا مِنْ دونِ الله} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! فقال: "بَلَى، إنهمْ حَرَّمُوا عَليْهِمُ الحَلَالَ وأَحَلوا لَهم الحَرَامَ، فَاتبَعوهم، فتِلْكَ عِبَادَتهمْ إياهمْ"(1).
(1) تفسير ابن كثير (3/ 385).