الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَحَلّ النِّيَّة
بالتأمل في تعريفات العلماء للنية يظهر لنا أنَّ محل النية عندهم القلب، فقد عرَّفها بعضهم بأنَّها "عزيمة القلب"، أو "وجهة القلب"، أو "قصده"، أو "انبعاثه"(1).
وقد نقل ابن تيمية اتفاق علماء الشريعة على أنَّ القلب محل النية (2)، وحكى السيوطي أنَّ الشافعية قد أطبقوا على أن النيّة محلها القلب وهو قول مالك رحمه الله (3).
والذي جعلهم يذهبون هذا المذهب أنهم وجدوا كتاب الله ينسب العقل والفقه والإِيمان والزيغ ونحو ذلك إلى القلب. كما قال تعالى: {أَفلمْ يسيِرُوا في الَأرْض، فتكُون لهُمْ قُلُوب يعْقلونَ بِهَا} (4)، وقال:{وطُبع علَى قُلُوبهمْ فهُمْ لا يَفقَهُون} (5)، وقال:(أولئك كتب في قُلُوبِهِمُ الإيمَان} (6)، وقال:{فَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ الله قُلُوبهُمْ} (7).
والقلب الذي عناه الله تعالى في هذه الآيات محله الصدر، وقد نصّ الله -تعالى- على ذلك:{وَلكِن تَعْمى الْقُلُوبُ الَّتي فِي الصدُورِ} (8).
(1) سبق ذكر هذه التعريفات في المقدمة ص (20).
(2)
مجموع الفتاوى (18/ 262).
(3)
منتهى الآمال (17/ أ) الحدود في الأصول (ص 34).
(4)
سورة الحج / 46.
(5)
سورة التوبة / 87.
(6)
سورة المجادلة / 22.
(7)
سورة الصف / 5.
(8)
سورة الحج / 46.
وقد فهم القرطبي (1) هذه النصوص على ظاهرها، فالقلب الذي عناه الله هو "بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا، للعلم، فيحصي به العبد ما لا يسع في الأسفار، يكتبه تعالى بالخط الإلهي، ويضبطه بالحفظ الرّباني، حتى يحصيه، ولا ينسى منه شيئًا"(2).
ويذكر القرطبي أيضا: "أن القلب في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته، وقلبت الإِناء رددته على وجهه، ثم نقل هذا اللفظ فسمى به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر إليه، ولتردّدها عليه كما قيل:
ما سُمِّي الْقَلْبُ قَلْبًا إلاّ مِن تقلبه
…
فَاحْذرْ على الْقَلبِ منْ قلْبٍ وَتَحْويلِ" (3)
إلاّ أنَّ كثيرا من العلماء يرى أنَّ القلب المعني في الآيات القرآنية هو: "لطيفة ربانية، لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلّق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الِإنسان، ويسميها الحكيم النفس الناطقة، والروح الباطنة"(4).
وعلى هذا فالقلب هو الروح أو النفس، ويشهد لهذا أن البحوث التي أجريت على القلوب من الباحثين في العصر الحديث دلت على أن القلب الجسماني ليس إلاّ مضغة من اللحم، ونحن نصدق ربّا في أن القلب محلّ العقل والفقه، إلاّ أن المراد به تلك اللطيفة المتعلقة بالقلب. والله أعلم.
وقد ذهب غالبية الفلاسفة إلى أن الدماغ محلّ العقل، ويلزم على قولهم هذا
(1) هو محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المالكي، من كبار المفسرين، له (الجامع لأحكام القرآن) في التفسير، وفاته سنة (671 هـ).
(مقدمة تفسير القرطبي)، (الأعلام 5/ 218).
(2)
تفسير القرطبي (14/ 117).
(3)
تفسير القرطبي (1/ 187).
(4)
التعريفات للجرجاني (ص 156).
أن يكون الدماغ محل النيّة والعلوم والاعتقادات، لأن هذه الأعراض أعراض النفس والعقل، فحيث وجدت النفس وجد الجميع، فالعقل سجية النفس، والعلوم والإرادات صفاتها (1).
وحجتهم على مدعاهم، أن من أصيب دماغه فسد عقله، وبطلت العلوم والفكر وأحوال النفس.
ولا نريد أن نخوض فيما خاض فيه الأوائل والأواخر في هذا الموضوع، فقد اختلف الناس في تحديد معنى العقل ومكانه، وكيفية العقل
…
الخ، وحسبنا هنا أن نقرر في هذا ما قرره القرآن من أنَّ محل العقل والفقه والإِيمان والزيغ هو القلب، ومكان القلب الصدر.
(1) الذخيرة (1/ 235)، الحطاب على خليل (1/ 231)، وقد وافق المعتزلة في قولهم أن العقل في الدماغ أبو حنيفة (الحدود في الأصول 34 - 35)، وتابعه أصحابه. (ابن الجوزي في ذم الهوى ص 5)، (والقرافي في الذخيرة 1/ 235)، وقال به عند الملك من المالكية مخالفا إمام المذهب (ابن الجوزي في ذم الهوى)، نسب القول بذلك إلى الإمام أحمد (ذم الهوى ص 5).