الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التلفظ بها همسًا
التلفظ بالنيّة سرّا لا يجب عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فلم يقل أحد من الأئمة بوجوب ذلك، لا في الطهارة ولا في الصلاة ولا الصوم، .. الخ.
وغلط أبو عبد الله الزبيري (1) من الشافعية على الشافعي رحمه الله إذ خرّج وجها من كلام الشافعي زاعما أنه يوجب التلفظ بالنية في الصلاة.
والسبب في غلطه سوء فهمه لعبارة الشافعي، فالشافعي قال في كتاب الحج:"إذا نوى حجّا وعمرة أجزأ، وإن لم يتلفظ، وليس كالصلاة لا تصح إلاّ بالنطق"(2).
قال النووي: "قال أصحابنا: غلط هذا القائل، وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا، بل مراده التكبير"(3). وحتى ينقطع القول بأن للشافعي قولا يوجب التلفظ بالنيّة في الصلاة أسوق عبارته الناصة على أنّه لا يرى ذلك لا في الصلاة ولا في غيرها؛ يقول رحمه الله تعالى في كتاب الأم: "فيما حكينا من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنّ نيّة الملبي كافية له من أن يظهر ما يحرم به، كما تكون نيّة المصلي مكتوبة أو نافلة أو نذرا كافية له من إظهار ما ينوي منها بأيِّ إحرام نوى، ونيّة الصائم كذلك، وكذلك لو اعتمر أو حج عن غيره كفته نيته من أن يسمي أنَّ حجه هذا عن غيره"(4).
(1) هو الزبير بن أحمد الزبيري، من أحفاد الزبير بن العوام فقيه شافعي، كان إمام أهل البصرة في عصره.
توفي عام (317 هـ). (تاريخ بغداد 8/ 471)، (الأعلام 3/ 74).
(2)
(المجموع (3/ 243).
(3)
المصدر السابق.
(4)
الأم (2/ 132).
ولم يذكر الفقهاء عن أحد قبل الزبيري أو بعده لا من الشافعية ولا من غيرهم أنّه قال بوجوب التلفظ بالنية، فيكون قوله هذا خرقا للإجماع، ولا يحل الأحد متابعته في القول بذلك أو بالإفتاء به.
أما القول باستحباب التلفظ فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة السابقين، بل المنصوص عن الِإمام مالك وأحمد أنّه لا يستحب التلفظ بذلك (1).
وأتباع الِإمام مالك لا يستحبون التلفظ بالنية (2)، واختلف أصحاب الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة (3)، فمنهم من رأى أنَّ التلفظ بالنية مستحب، ومنهم من لم ير الاستحباب بل قال: هو مكروه وبدعة.
وكلّ الذي احتج به القائلون بالاستحباب على اختلاف مذاهبهم أنه يستحب "لاجتماع عزيمته"(4)، أو "لأنه آكد"(5)، أو "ليساعد اللسان القلب"(6)، أو "ليكون أوفى وطأ، وأقوم قيلا"(7)، هذه عباراتهم وهي متقاربة في معناها.
أما الذين كرهوا التلفظ ولم يستحبوه فلهم أدلة على مدّعاهم، وردود على القائلين بالاستحباب نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستحباب لا يكون إلاّ بدليل، ولا دليل:
قالوا: إن الاستحباب حكم شرعي لا يثبت بمجرد النظر والتشهي، فلا واجب
(1) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 56)، الإنصاف للمرداوي (1/ 142)، مجموع الفتاوي لابن تيمية (22/ 221).
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 358).
(3)
هو النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، الفقيه المجتهد، إمام الحفية، أصله من فارس، له كتاب "المسند"، جمعه أحد تلامذته، وتنسب إليه رسالة "الفقه الأكبر" ولد وتوفي بالكوفة (80 - 150 هـ).
(تهذب التهذيب 10/ 449)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 95)، (الكاشف 3/ 205)، (طبقات الحفاظ ص 73).
(4)
الهداية (1/ 186).
(5)
المجموع للنووي (1/ 366).
(6)
إرشار الساري للقسطلاني (1/ 54).
(7)
الإفصاح لابن هبيرة (1/ 56).
إلاّ ما أوجبه الله ورسوله، ولا مستحب إلا ما أرشد الله ورسوله إلى استحبابه. ولم يأتنا دليل يرشدنا إلى استحباب التلفظ بالنيّة.
وقد تنبه بعض الأحناف إلى هذه الحقيقة فوجه الاستحباب على غير معناه الأصولي: فقال: "التلفظ بالنية مستحب، وقيل سنة، يعني أحبّه السلف أو سنه علماؤنا، إذ لم ينقل عن المصطفى ولا الصحابة ولا التابعين، سمّي مستحبّا باعتبار أنه أحبّه علماؤنا، وسنة باعتبار أنّه طريقة، حسنة لهم"(1).
وهذا التوجيه غير سديد، فإنَّ المستحب أو السنة إذا أطلقا انصرفا إلى المصطلح المعروف.
2 -
وقالوا: هو بدعة:
وعللوا ذلك بأنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فعله لا في طهارة ولا صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك، ولم يعلمه أحدا من أصحابه ولا أمر به.
ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنّه فعل ذلك أو علّمه أو أمر به، ولا التابعين ولا أتباعهم، ولا الأئمة الأربعة ولا أحد من الأئمة المعتبرين (2).
ومعلوم أن كل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدعة من وجهين:
الوجه الأول: من حيث اعتقاد المعتقد أنَّ ذلك مشروع مستحب، أي يكون فعله خيرا من تركه مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله البتّة، فتبقى حقيقة هذا القول: أنَّ ما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإِحرام قبل الميقات، فقال:"أخاف عليك الفتنة"، فقال السائل: أيُّ فتنة في ذلك؟ وإنما زيادة أميال في طاعة الله عز وجل! قال:
(1) حاشية ابن عابدين (1/ 305).
(2)
فتح القدير لابن همام (1/ 186)، حكى أن التلفظ بدعة إذ لم يرد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وممن نص على ذلك ابن القيم في زاد المعاد، (1/ 51).
"وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنّك خصصت بفضل لم يفعله رسول الله صلى الله على وسلم"(1).
وقد ثبت في الصحيحين أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من رغب عن سنتي فليس مني".
والمعنى أن من ظن أن سنة ما أفضل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرغب عما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم، معتقدا أنّ ما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني، لأن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يخطب بذلك يوم الجمعة.
ولا يحتجّ محتجّ بجمع التراويح، وبقول عمر:"نعمت البدعة هذه" فإنَّها بدعة في اللغة، أي أمر بديع جميل، يدلّنا على ذلك أنَّ صلاة التراويح سنة في الشريعة، يقول ابن بطَّال:"قيام رمضان سنَّة، لأنَّ عمر إنَّما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما تركه النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض"(2)، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة في جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلَّى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدَّثوا، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلمَّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى أقبل على النّاس، فتشهد، ثمَّ قال:"أما بعد: فإنه لم يخفَ علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"(3).
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 223).
(2)
فتح الباري (3/ 252).
(3)
صحيح البخاري (1 - كتاب صلاة التراويح)، انظر فتح الباري (3/ 251).
فالحديث واضح فيه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم سنَّ لنا قيام رمضان جماعة، وأنه ترك المداومة على ذلك خشية أن يفرض علينا فلا نستطيع القيام به، فلمَّا توفي صلى الله عليه وسلم، وانقطع الوحي، زالت الخشية التي خشيها صلى الله عليه وسلم. ولو لم يأت دليل بذلك لكان لنا أسوة بعمر بن الخطاب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"(1).
وما أبعد ما قاله القسطلاني (2) متحكما في هذه القضية برأيه حيث زعم بلا دليل أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلفظ بالنية، يقول القسطلاني:"ولئن سلمنا أنّه لم يرو عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه النطق بها، لكنا نجزم بأنَّه عليه السلام نطق بها، لأنّه لا شك أن الوضوء المنوي مع النطق به أفضل، والعلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره أنّه أتى بالوضوء المنوي مع النطق، ولم يثبت عندنا أنَّه أتى بالوضوء العاري عنه، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنّه أتى بالوضوء المنوي مع النطق"(3).
هذا كلام القسطلاني، وعجيب أن يصدر مثل هذا من عالم محدِّث فاضل مثله. فهو يقرّر أن التلفظ بالنية أفضل، ولا يأتي بدليل يدلُّ على هذه الأفضلية، ثم يبني على هذا الأمر الذي لم يدلّل عليه -والذي أصبح عنده يقينا- أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يترك الأفضل، فيلزم من ذلك أنّه كان يتلفظ بالنية.
(1) رواه أحد وأبو داود والترمذي وابن ماجه (مشكاة المصابيح 1/ 58)، وقال محقق الكتاب: وسنده صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2)
هو محمد بن أحمد بن علي، ولد بمصر سنة (614 هـ)، ونشأ بمكة، وتوفي في القاهرة سنة (686 هـ)، كان عالما بالحديث ورجاله، وتولى مشيخة دار الحد: الكاملية، بالقاهرة، له شرح على صحيح البخاري.
(طبقات الحفاظ ص 547)، (الأعلام 1/ 173).
(3)
إرشاد الساري (1/ 54).
ونحن نقول له: أثبت الأصل أولا قبل أن تقيم عليه البناء، ونقول له: إنّه يبعد كلّ البعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينطق بالنية في فعل كان يتكرر في كل يوم مرات ومرات من وضوء وصلاة، على مشهد من أصحابه وأزواجه ثم لا ينتبهون إليه، ولا ينقلونه لنا، أما القول بأنَّهم عرفوا ذلك وكتموه أو أهملوا نقله فهذا بعيد، لأنَّ في ذلك كتمانا للعلم، وتضييعا للأمانة، ولا يقول مسلم إنَّ أحدا من الصحابة كان كذلك.
فلما لم ينقل علمنا أنه لم يكن، وإذ لم يكن فعلينا أن نقول: إنَّ الأفضل تركه.
الوجه الثاني: أن التلفظ بها بدعة من حيث المداومة على خلاف ما داوم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات، فإنَّ هذا بدعة باتفاق الأئمة.
والمحْدِث لذلك يظنُّ أنَّ في الزيادة خيرا، ولكنّه في واقع الأمر ليس كذلك، فقد أحدث مروان بن الحكم (1) الأذان والِإقامة لصلاة العيد، فأنكر عليه الصحابة والعلماء ذلك.
3 -
ثبت في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلفظ بذلك.
أ- فمن ذلك حديث عائشة (2) قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير (3).
ب- وفي حديث أبي هريرة (4) أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمسيء
(1) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص خليفة أموي، ولد بمكة، وسكن المدينة، وكان واليا لها فى عهد معاوية، تولى الخلافة بعد اعتزال معاوية بن يزيد، توفي بدمشق سنة (65 هـ).
(تهذيب التهذيب 10/ 91)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 19)، (الكاشف 3/ 132).
(2)
هي عائشة بنت أبي بكر، الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين والأدب، من المكثرات في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولدت بمكة قبل الهجرة بتسع سنوات، وتوفيت، بالمدينة سنة (58 هـ)(خلاصة تذهيب الكمال 3/ 387)، (الكاشف 3/ 476)(طبقات الحفاظ ص 8).
(3)
رواه مسلم (انظر مشكاة المصابيح 1/ 246).
(4)
اختلف في اسمه على أقوال كثيرة، أصحها عبد الرحمن بن صخر، واشتهر بكنيته، أكثر الصحابة حفظا للحديث، قدم المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، توفى سنة (59 هـ).
(تذكرة الحفاظ 1/ 32)، (شذرات الذهب 1/ 63)، (طبقات الحفاظ ص 9).
صلاته -عندما قال له: علمني يا رسول الله- قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثمَّ اقرأ بما تيسر معك من القرآن"(1).
جـ وقيل لعبد الله بن عاصم (2): توضّأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه ومسلم، فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثا
…
الحديث (3).
د- وثبت مثله عن علي بن أبي طالب، فعن أبي حَيَّة، قال:"رأيت عليا توضأ، فغسل كفيه حتى أنقاهما .. " الحديث.
فهذه النصوص ومثلها كثير عن الرسول -صلى الله عليه ومسلم- وأصحابه أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير، ولا يقولون قبل التكبير شيئًا، وكذلك في الوضوء يبدؤون بغسل الكفين، وفي الحج كانوا يبدؤونه بالتلبية، ولم يكونوا يقولون: اللهم إنّي أريد الحجّ أو العمرة والحجّ، بل كانوا أول ما يفعلون الإهلال بالحج، والِإهلال رفع الصوت بالتلبية. "وقد سأل أبو داود الِإمام أحمد، فقال: يقول المصلي قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا"(4).
4 -
إذا خالف اللسان القلب فالعبرة بما في القلب:
وهذا ممّا لم يختلفوا فيه، يقول النووي:"إذا قال بلسانه نويت التبرد، ونوى بقلبه الحديث، أو بالعكس- فالاعتبار بما في القلب بلا خلاف. ومثله ما قاله الشافعي في الحج: "لو نوى بقلبه حجّا، وجرى على لسانه عمرة أو عكسه، انعقد ما في قلبه دون لسانه" (5).
(1) رواه البخاري ومسلم (انطر المشكاة 1/ 241).
(2)
هو عبد الله بن عاصم الحماني (بكسر الحاء وتشديد الميم نسبة إلى حمّان، وهي قبيلة من تميم، وهو حمان بن عبد العزى) أبو سعيد البصري، قال أبو حاتم صدوق.
راجع: (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 68)، (الكاشف 2/ 99).
(3)
متفق عليه (انظر المشكاة 1/ 125).
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 28).
(5)
المجموع للنووي (1/ 367).
فما الفائدة من النطق بالنيّة إذا كان الإجماع قد انعقد على أنَّه لا عبرة به إذا خالف ما استقرَّ في القلب؟
5 -
لا مدخل للتلفظ في حصول النية في القلب، والتلفظ بها عبث، والقصد أمر ضروري لفعل الفاعل:
لقد ظن القائلون بالاستحباب أن للتلفظ مدخلا في تحصيل النية بأن يؤكد عزيمة القلب، وهذا خطأ، فإنَّ القائل -إذا قال: نويت صلاة الظهر، أو نويت رفع الحديث- إمّا أن يكون مخبرا، أو منشئا. فإن كان مخبرا فإمّا أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره، وكل ذلك عبث لا فائدة فيه، لأنَّ الِإخبار إنّما يفيد إذا تضمَّن تعريف المخْبَر ما لم يكن عارفا، وهذا محال في إخباره لنفسه. وإن كان إخبارا لغيره بالنيّة فهو عبث محض، وهو غير مشروع ولا مفيد، وهو بمثابة إخباره بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجّه وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبّه وبغضه، بل قد يكون في هذه الأخبار فائدة، وأما إخبار المأمومين أو الإمام بالنية فعبث محض.
ولا يصحّ أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا ينشىء وجود النيّة، وإنّما إنشاؤها إحضار حقيقتها في القلب، لا إنشاء اللفظ الدالّ عيها.
والذي يُوجِد حقيقتها في القلب العلمُ الذي يتقدمها ويسبقها، فالنيّة تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله لا بد أن ينويه ضرورة، كمن قدّم بين يديه طعام ليأكله، فإذا علم أنه يريد الأكل فلا بد أن ينويه، وكذلك الركوب وغيره.
ولو كلّف العباد أن يعملوا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون، فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملا مشروعا أو غير مشروع، فعلمه سابق إلى قلبه، وذلك هو النية، وإذا علم الإنسان أنَّه يريد صلاة أو صوما أو طهارة فلا بد أن ينويه -إذا علمه- ضرورة، وإنَّما يتصور عدم النيّة إذا لم يعلم ما يريد، مثل من نسي الجنابة، واغتسل للنظافة أو للتبرد، أو من يريد أن يعلّم غيره الوضوء، ولم يرد أن يتوضأ لنفسه، أو من لا يعلم أن غدا من رمضان فيصبح ناويا للصوم، وأمَّا الذي يعلم أن غدا من رمضان
وهو يريد الصوم فهذا لا بدَّ أن ينويه ضرورة، ولا يحتاج أن يتكلم به (1).
6 -
القول بالوجوب أو الاستحباب له آثار سيئة:
ظن القائلون باستحسان التلفظ أنه أجمع لعزيمة القلب، ولكن الواقع المشاهد أن القول بوجوب التلفظ أو باستحبابه أنشأ آثارا سيئة، فقد أوقع كثيرا من النّاس في الوسوسة، فترى المصلي ينطق بنيَّة الصلاة واضحة مفسرة، ثم يهم بالتكبير، فيظن أنَّه لم يستحضر النية، فيعيد النطق مرة أخرى، بل منهم من يكبر، وينقض تكبيرته مرَّة ومرَّة (2)، حتى يصل الأمر ببعضهم أن يقسم بالله، أو يحلف بالطلاق لا كبّرت غير هذه، وسب هذا الوسواس أن النية تكون حاضرة في قلب هذا الموسوس، ويعتقد أنَّها ليست في قلبه، فيريد تحصيلها بلسانه، وتحصيل الحاصل محال.
7 -
تناقض:
والذين يوجبون مقارنة النية للتكبير في الصلاة كالشافعية، ثم يقولون بوجوب التلفظ بالنية أو يستحبون ذلك يتناقضون، إذ كيف سينطق بالنية في الوقت الذي يكون لسانه مشغولا بالتكبير؟! هذا محال.
وقد تنبه إلى ذلك ابن الصباغ من الشافعية فقال: "يستحب التلفظ بالنية مقارنا لها في غير الصلاة، ولا يتصوّر ذلك في الصلاة"(3). إلاّ أنه قال -مع ذلك- باستحباب التلفظ، واستصحاب ذكرها بقلبه، وعلى ذلك يكون من القائلين بتقدم النية على التكبير، وإن لم يعترف بذلك.
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (18/ 262 - 263).
(2)
تلبيس إبليس (ص 153).
(3)
الجواهر للقمولي (نهاية الإحكام ص 87).