الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - معرفة الرياء والتحرز منه:
تحدثنا عن شدة خفاء الرياء، وهذا يقتضي أن يكون العابد على علم بالرياء وأسبابه، ثم يتحرز منه دائما، فالإنسان قد يؤتى من جهله، وقد يؤتى من قلة حذره.
3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:
ومما ينفي الرياء ويُكَرِّه به أن يعلم المرائي أن رياءه لن يجلب له نفع النَّاس، وبين يدفع عنه ضررهم، بل قد يجلب سخطهم وكراهيتهم ومقتهم كما يجلب كراهية الله وسخطه ومقته، فيخسر الدنيا والآخرة. ولله در الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حيث يقول:"ومن تزين بما ليس فيه شانه الله"(1)، وقد علَّق ابن القيم على هذا القول القيم قائلاً:"لما كان المتزين بما ليس فيه ضدّ المخلص فإنه يظهر للناس أمرا، وهو في الباطن بخلافه، عامله بنقيض قصده، فإنَّ المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا، ولمَّا كان المخلص يعجّل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة في قلوب العباد، عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته إن شانه الله بين الناس، لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه"(2).
وبين أن المرائي قد يشينه عمله عند الناس، لأنَّهم يبحثون عنده عما يظهر أنه فيه، فلا يجدونه، فيعلمون كذبه:"ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدِّين والشك والعلم وغير ذلك، قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تطب منه فإذا لم توجد عنده افتضح فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه"(3).
(1) هذا النص جزء من رسالة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى أبي موسى في القضاء، والحديث رواه الدارقطني والبيهقي وساقه ابن حزم من طريقين وأعلهما بالانقطاع، راجع تلخيص الحبير 2/ 196 "وقد شرح العلامة ابن القيم الحديث في كتابه إعلام الموقعين".
(2)
إعلام الموقعين 2/ 159.
(3)
إعلام الموقعين 2/ 159.
والرياء قد يجعل صاحبه محلّ سخرية الناس وهزئهم، فقد تناقل العلماء في كتبهم حكايات المرائين، وتندروا بها، حكى الأصمعي أنَّ أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك! فقال: وأنا مع ذلك صائم (1).
فانظر إلى هذا المسكين الذي أراد العباد بعبادته، كيف ترك صلاته عندما سمع حمد الناس، ليظهر لهم أمرا آخر من عبادته لا يعلمونه، وهو الصوم، فكيف أصبح في نظر هؤلاء؟ لقد سمعه أعرابي آخر حاضر المجلس فأنشد قائلا:
صلى فأعجبني وصام فرابني
…
نح القلوص عن المصلي الصائم
وقال الماوردي معقبا على هذه القصة "فانظر إلى هذا الرياء ما أقبحه! وما أدله على سخف عقل صاحبه"! (2).
وذكر العلماء على سبيل التندر أن طاهر بن الحسين (3) قال لأبي عند الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عند الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال له مبكّتًا: يا أبا عند الله سألتك عن مسألة، فأجبت عن مسألتين (4)
…
! أين حال هذين من حال الأشعث بن قيس (5) عندما خفَّف صلاته مرة، فقال له أهل المسجد: خففت صلاتك جدا؟ فقال: إنه لم يخالطها رياء. فتخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، ورفع التصنع في صلاته (6).
وأين حال هذين من حال عمر بن الخطاب وقد أحسَّ على المنبر بريح خرجت
(1) أدب الدنيا والدين ص 95، تفسير القرطبي 11/ 71.
(2)
أدب الدنيا والدين ص 95.
(3)
هو طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي من كبار الوزراء والقواد، وهو الذي وطد الملك للمأمون بعد قتله للأمين، مات قتيلا عام (207 هـ).
(4)
أدب الدنيا والدين ص 95، تفسير القرطبي (11/ 71).
(5)
هو الأشعت بن قيس الكندي أمير كنده في الجاهلية والإسلام، كان مقيما في حضرموت، قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع من قومه، فأسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ميلاده في (23) قبل الهجرة، ووفاته سنة (40 هـ)، راجع:(تهذيب التهذيب 1/ 359)، (الكاشف 1/ 135)، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 100).
(6)
أدب الدنيا والدين ص 95، تفسير القرطبي 11/ 71.