الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال تعالى في الزينة والطيبات: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1)، أي لا يشركهم فيها الكفار.
ومن هنا نرى أنَّ بين المعنى اللغوي والاصطلاحي تناسبا وتوافقا، فالإخلاص يهدف إلى تخليص القصد المتوجه إلى الله تعالى من الأوشاب والأخلاط والفساد الذي يزاحمه ويخالطه، بحيث يتصفى القصد لله عز وجل دون سواه في جميع العبادات.
شدة الإخلاص وصعوبته
الصدق في الإخلاص من أشقّ الأمور على النفوس، وهذه المشقة لا يعاني منها عوام النّاس ودهماؤهم دون العلماء والأئمة، بل كثير من العلماء والصالحين لاقوا هذه المعاناة، يقول سفيان الثوري:"ما عالجت شيئًا عليّ أشدّ من نيتي، إنّها تتقلب علي"(2).
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوب ثبِّتْ قَلْبي عَلَى دِينِكَ"(3).
وكان يكثر في قسمه أن يقول: "لَا وَمُقَلب الْقُلُوب"(4).
فالقلوب كثيرة التقلب والتحول في قصودها ونياتها، ومن شاء أن يعلم ذلك فلينظر إلى تحول قصده ووجهته في مدى ساعة واحدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ قلب إلاّ وَهُو َمُعَلقَ بَيْنَ أُصْبُعينِ مِنْ أَصَابِع الرّحمن، إنْ شَاءَ أَقَامَهُ وإنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، والْمِيزانُ بيَدِ الرَّحْمَن، يَرْفَعُ أقْوَامًا، وَيخَفِضُ آخرينَ إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(5).
(1) سورة الأعراف / 32.
(2)
المجموع 1/ 29.
(3)
الترمذي دعوات 89، 124، ابن ماجه كفارات (المسند 2/ 26، 67، 68، 127).
(4)
صحيح البخاري (انظر فتح الباري 13/ 377).
(5)
رواه أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه، والحاكم في مستدركه عن النواس (انظر صحيح الجامع 5/ 5623)، وانظر (كنز العمال 1/ 216).
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لقَلْب ابْن آدَمَ أشَدُّ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْر إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا"(1).
والسبب في تقلّب القلوب يعود إلى كثرة الواردات التي ترد على القلوب، والقلب -كما يقول سهل بن عبد الله-:"رقيق تؤثر فيه الخطرات"(2).
وقد عدّ الحارث المحاسبي (3) الواردات التي ترد على القلب على ثلاثة معان:
الأوّل: تنبيه من الرحمن، ففي الحديث:"مَنْ يُرِدِ اللُه به خَيْرًا يَجْعَلْ لَهُ وَاعِظًَا مِنْ قَلْبهِ"، وفي الحديث الآخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ضَرَبَ اللُه تَعَالَىَ مثلاً صِرَاطًَا مُستَقِيمًا، وَعَلَى جَنبتَيّ الصرَاطِ سُورَان، فِيهمَا أَبْوَابٌ مفَتَّحَة، وَعَلَى الأبْوَاب ستُور مُرْخَاة، وَعَلَى الصِّرَاطِ دَاعٍ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخلُوا الصِّرَاطَ جَمِيَعًا، وَلَا تعْوَجُّوا، وَداعٍ يَدْعُو مِنْ فوْق الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شيئًَا مِنْ تِلْكَ الأبْواب قال: ويحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فإِنكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ..
فَالصِّرَاطُ الإسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حدود اللِه تَعَالى، وَالْأبْوَاب المُفَتَّحَةُ مَحَارِم الله تَعَالَى، وَذَلِكَ الداعي عَلَى رَأْس الصرَاطِ كَتابُ اللِه، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظُ الله فِي قَلْبِ كل مُسْلِم" (4).
ويرى المحاسبي أن واعظ الله يتحقق في قلب المسلم بأن يحدث الله الخاطر ببال عبده، وينشئه في قلبه، أو بأن يأمر المَلَك بفعل ذلك.
الثاني: تزيين الشيطان ونزغه ووسوسته، وقد أمر الله رسوله أن يفزع إلى الله مستجيرا من نزغات الشيطان:{وَإِما يَنْزَغَنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاستعِذْ بِالله إنهُ سَمِيعٌ عَليِم} (5).
(1) أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه عن المقداد (كنز العمال 1/ 216).
(2)
عوارف المعارف ص 21.
(3)
الرعاية ص 78، 79.
(4)
رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه عن النواس، (انظر مشكاة المصابيح 1/ 67)، وصحيح الجامع الصغير ج 4 حديث رقم 3782.
(5)
سورة الأعراف / 200.
وأخبر سبحانه أن الشيطان يوسوس في صدور النّاس: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (1).
والشيطان عنده القدرة على أن يخالط القلب ويصل إليه، ففي الحديث:"إنَّ الشيْطَانَ يَجْري مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدمِ"(2)، وهو يوسوس للإنسان بالشرّ، فإذا ذكر العبد ربَّه اختفى الشيطان، وهرب.
والشيطان يزيّن المعاصي والآثام للعبد، ويحركه إلى فعلها:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (3)، أي تحرّكهم إلى المعاصي والآثام تحريكا.
وقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (4).
وبين الله شيئًا من سبل الشيطان في الوسوسة والتزيين والإضلال:
وفي الحديث أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بأطْرُقِهِ، فَقعَدَ لَهُ بطَريقِ الإسْلَام فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ ودِينَ آبَائِكَ، وآبَاءِ آَبَائِكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسلم.
ثمَ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟
وإنما مَثَلُ الْمهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطَولِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ.
ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بطَريق الْجهَادِ، وهُو جهاد النفْس وَالْمَالِ فقال: تُقاتلُ، فتُقْتلُ، فَتُنْكَحُ الْمرْأَة، َ ويقْسَمُ المَالُ؟ فَعَصَاَة، فَجَاهَدَ" (6).
(1) سورة الناس/ 4، 5.
(2)
رواه البخاري ومسلم (مشكاة المصابيح 1/ 26).
(3)
سورة مريم/ 83.
(4)
سورة فصلت/ 25.
(5)
سورة النساء 118 - 119.
(6)
رواه أحمد في مسنده من حديث سبره بن أبي الفاكه (إغاثة اللهفان1/ 101).
ومن حكمة الله تعالى أن جعل قلوب العباد ميدان حرب وصراع، فالقلب يتعاوره ملك وشيطان، هذا يلمّ به مرة، وهذا يلمّ به أخرى.
يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (1).
ووضّح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ففي الحديث: "إن للْمَلِك بِقَلْب ابْن آدَمَ لَمَّةً، ولِلشيْطَانِ لَمَّة، فَلَمَّة الْمَلَك إيعَادٌ بِالْخَيْر، وَتَصْديقٌ بالْوَعْدِ، وَلمَة الشيْطَانِ إيعَادٌ بالشر، وتَكْذِيبٌ بِالْمَوْعِدِ، ثم قَرَأَ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2).
يقول ابن القيم معقبا على الحديث: "فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه كله نهارا، وآخر بضده"(3).
وقال الحسن البصريّ: "وإنَّما هما همّان يجولان في القلب: همٌّ من الله، وهم من العدو، فرحم الله عبدا وقف عند همّه، فما كان من الله أمضاه، وما كان من عدوّه جاهده
…
" (4).
والشيطان إنّما يصارع ليملك القلب ويستولي عليه، فيفسده، وبفساده يفسد الجسد كله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أَلَا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صلَحتْ صَلَحَ الْجَسدُ كله، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَد كلهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْب"(5)، ويقول:"إنّمَا الأعْمَال كَالْوِعَاءِ، إِذَا طَابَ أَسْفَله طَاب أَعْلاه، وإِذَا فَسَدَ أسْفله فَسَدَ أعْلاه"(6).
(1) سورة البقرة /268.
(2)
سورة البقرة /268، والحديث رواه الترمذي، وقال فيه: هذا حديث غريب، (انظر مشكاة المصابيح 1/ 28).
(3)
إغاثة اللهفان: 1/ 28.
(4)
الغنية 1/ 89.
(5)
رواه البخاري ومسلم، (صحيح الجامع ج 3، حديث رقم 3188).
(6)
رواه ابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده، (صحيح الجامع ج 2، حديث رقم 2316).
فالشيطان كما يقول ابن القيم: "يسحر العقل حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزيّن له الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنَّه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء، حتى يخيّل إليه أنَّه يضرّه. فلا إله إلاّ الله، كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال بين القلب وبين الإيمان والإسلام والإِحسان، وكم جَلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة، وشنَّع الحقَّ وأخرجه في صورة مستهجنة! وكم بهرج من الزيوف على الناقدين! وكم روّج من الزغل على العارفين! فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك .... "(1).
الثالث: والجهة الثالثة التي تؤثّر في القلب بوارداتها -كما يرى المحاسبي- النفس، فالنَّفس أمارة بالسّوء، تدعو إلى الطغيان وتأمر بالشرّ:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (2). وقال نبي الله يعقوب لأبنائه عندما زعموا أن الذئب أكل يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (3).
وقال تعالى في حقّ ابن آدم الذي قتل أخاه: {فَطَوّعَتْ لَهُ نفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} (4).
ومركب النفس الأمارة بالسوء الهوى والشهوات، فالمسلم لا ينجو إلاّ بمجاهدة الهوى ومصارعته.
فهذه الثلاثة ترد على القلب، فيحتاج العبد أن يكون يقظًا دائمًا، يردع نفسه عن هواها، ويكبح زمام النفس الأمّارة بالسوء، ويعدّ العدّة دائما لمحاربة عدوه: الشيطان، ومصارعته بالأسلحة التي عرَّفه الله بها، من الذكر والتلاوة والعبادة ونحو ذلك.
(1) إغاثة اللهفان 1/ 130.
(2)
سورة يوسف / 53.
(3)
سورة يوسف / 18.
(4)
سورة المائدة / 30.