الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه، فكأنهم في رياض" (1).
ويذكر صاحب العقد الفريد أنَّ الفرس قسموا دهرهم كلَّه هذا التقسيم: قالوا: يوم المطر للشراب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس، وما فعلوا ذلك إلا اتباعا لأهوائهم البهيمية، وإيثارا للراحة (2).
تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:
الهوى مقصور: "مصدر هوى يهوى هوى، أي: أحبّ، وهوى النفس إرادتها، قال اللغويون: الهوى محبة الإنسان الشيء، وغلبته على قلبه
…
(3)، ومتى تكلم بالهوى مطلقا لم يكن إلا مذموما، حتى ينعت بما يخرجه عن معناه، كقولهم:"هوى حسن، وهوى موافق للصواب"(4).
والنفوس لها محبوبات تهواها، وتعشقها، وتطلبها، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (5).
وقد أودع الله النفوس حب هذه الأمور لحكمة بالغة، كي ينبعث الإنسان إلى تحصيل ما فيه صلاح لبدنه وبقاء نسله.
فإيداع النفوس حب هذه الأمور ليس مذموما، وإنما المذموم هو طلب هذه الأمور من غير الطريق المشروع، أو الإنشغال بها عن طاعة الله، يقول الغزالي رحمه الله: "فإن قلت: فهل من فرق دين الهوى والشهوة؟ قلنا: لا حجر في العبارات، ولكن نعني بالهوى: المذموم من جملة الشهوات دون المحمود،
(1) تاريخ الطبري (4/ 178)، (ماذا خسر العالم ص 72).
(2)
العقد الفريد (6/ 218).
(3)
وعلماء الشريعة لا يخالفون اللغويين فيما ذهبوا إليه، يقول الجرجاني: الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع. التعريفات ص 229.
(4)
لسان العرب 3/ 849.
(5)
سورة آل عمران: 14.
والمحمود من فعل الله تعالى، وهي قوة جعلت في الِإنسان لتبعث بها النفس لنيل ما فيه صلاح إما بإبقاء بدنه، أو بإبقاء نوعه، أو صلاحهما جميعًا.
والمذموم من فعل النفس الأمارة .... " (1).
والغزالي يشير هنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
فالنفوس لها أمر ونهي، وهي تأمر بتحصيل مطلوباتها التي تحبّها، وتلتذ لها، واتباع ما تهواه النفوس يكون بفعل ما تهواه، والِإنسان لا بد أن يتصور مراده الذي يهواه، ويشتهيه في نفسه، ويتخيله قبل فعله، فيبقى ذلك المثال كالِإمام مع المأموم، يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر تبع لاتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهى في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له.
واتباع الهوى بالاستجابة للنفس الأمارة من أعظم الضلال: {وَمَنْ أضَلُّ ممن اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هدَىً مِنَ الله} (3).
وقد عَدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الهوى أحد ثلاث مهلكات، فقال: "ثلاث مهلكات: شحّ مطاع (4)، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا" (5).
واتباع الهوى له نتائج خطيرة، ولنتأمل في قوله تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (6). ومن ينظر اليوم ببصيرة
(1) ميزان العلم (ص 245)، وانظر إحياء علوم الدين (4/ 111).
(2)
سورة يوسف: 53.
(3)
سورة القصص: 50.
(4)
الشح: أشدّ من البخل، فالبخل: أن يبخل الإنسان بماله، والشح أن يضنّ بماله ومعروفه، وقيل أن يضنّ بمعروف غيره على غيره.
(5)
رواه البيهقي في شعب الإيمان (مشكاة المصابيح2/ 637).
(6)
سورة المؤمنون: 71.
مستنيرة بنور الإِيمان يعلم ما حل بالقلوب والعقول والأفراد والأسر والمجتمعات نتيجة لاتباع الهوى في السياسة والتشريع والاقتصاد وغير ذلك، يقول ابن القيم:
"وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمَّة إلا وفسد أمرها أتم الفساد"(1)، والسبب في ذلك أن أهواء العباد غير محكومة بميزان، ولا تعتمد الحجة والبرهان، وإنما هي محبوبات ومكروهات يراد من ورائها اللذة العاجلة، والمتعة الزائلة.
ومن نتائج اتباع الهوى أن متبعه يعرض عن الحق، وهذا يورثه الجهل والضلال، حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، قال تعالى:{فَلَما زاغوا أَزَاغَ الله قُلوبَهمْ} (2)، وقال:{وَلَا تَتبع الْهَوَى فَيضِلكَ عَنْ سَبيلِ الله} (3). وإذا ضل العبد باتباعه الهوى فإن الشياطين تتلقفه، وقد لا يستطيع العودة إلى الحق:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (4).
ومن نتائجه أنه يبطل الأعمال الصالحة ويفسدها، فالذي يفعل ويترك اتباعا للهوى، لا عبودية لله، إذا عمل من الأعمال الصالحة ما وافق هواه، فإن عمله غير مقبول، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى، يقول الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في أمثال هؤلاء:"لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذًا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته، لأنه إنما قصد اتباع هواه"(5).
(1) إعلام الموقعين (1/ 72).
(2)
سورة الصف: 5.
(3)
سورة ص: 26.
(4)
سورة الأنعام: 71.
(5)
مجموع الفتاوى (10/ 479).