الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد فسَّر ربيعة (1) شيخ مالك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا وضوءَ لِمنْ لَمْ يَذْكِر اسْمَ الله علَيْه" أنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءا ولا غسلا للجنَابة" (2).
وقال ابن القيم معلقا على الحديث: "وتأوّله جماعة من العقلاء على النيّة، وجعلوه ذكر القلب، وقالوا: وذلك أن الأشياء قد تتغير بأضدادها، فلمّا كان النسيان محله القلب كان محل ضده -الذي هو الذكر- القلب، وإنما ذكر القلب: النيّة والعزيمة"(3).
وهذا الذي حكاه أبو داود عن ربيعة، وسكت عليه، وذكره الخطابي، وسكت عنه، وقرره ابن القيم -غير صحيح، فإن الحديث يقول:"ولَا وضُوءَ لمَنْ لَمْ يَذْكِر اسْمَ الله عَلَيْه"، والظاهر أنّ المراد بـ "اسم الله": التسمية بأنْ يقول: "بِسْمِ الله"، وحمله على النية خلاف الظاهر، وحمل الحديث على المعنى المرجوح. وترك الراجح تحكّم، إذ القاعدة الأصولية أنه لا يصرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح إلاّ لدليل، ولا يوجد دليل هنا، بل الدليل قائم على خِلافه إذ التسمية واجبة في بدايةِ الأمور المهمّة، ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها في كل أمر ذي بال.
ثالثا: القياس:
استدل القائلون بافتقار الوضوء إلى النية بالقياس، فمن ذلك قياس الشافعيّ (4) -رحمه الله تعالى- وهو: إنها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة، فلم تصح بلا نية كالتيمم.
(1) هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ التميمي بالولاء المدني، إمام حافظ فقيه مجتهد، كان بصيرا بالرأي، وكان من الأجواد، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وبه تفقّه مالك، توفي بالهاشمية من أرض الأنبار سنة (136 هـ).
راجع: تهذيب التهذيب (3/ 258)، (طبقات الحفاظ ص 69)، خلاصة تذهيب الكمال:(1/ 322)، (الكاشف 1/ 307).
(2)
معالم السنن (1/ 88)، وذكر أن أبا داود عزا هذا القول لربيعة.
(3)
تهذيب معالم السنن (1/ 88).
(4)
المجموع (1/ 364).
وقوله: "من حدث"، احتراز من إزالة النجاسة.
وقوله "تستباح بها الصلاة" احتراز من غسل الذميّة من الحيض.
فإن قالوا التيمم لا يسمّى طهارة، فالجواب أنّه ثبت في الصحح:"جعِلَتْ ليَ الأرْض مَسْجدًِا وَطَهُورًا"(1)، وفي رواية في صحيح مسلم:"وَتُربتهَا طَهورًا" وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: "الصعيد الطيِّب وُضُوء الْمسلِمِ"(2)، وما كان وضوءا كان طهورا وحصلت به الطهارة.
وقد أورد النووي اعتراضا على هذا القياس، فقال: قيل التيمم فرع الوضوء، ولا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع.
وقد أجاب عن هذا الإشكال قائلا: فالجواب: أن التيمم ليس فرعا؛ لأن الفرع ما كان مأخوذا من الشيء، والتيمم ليس مأخوذا من الوضوء، بل بدلا عنه، فلا يمتنع أخذ حكم المبدل من حكم بدله، ولأنَّه إذا افتقر التيمم إلى النية مع أنه خفيف إذ هو في بعض أعضاء الوضوء فالوضوء أولى (3).
وهناك إشكال آخر أقوى من سابقه، قالوا: هذا قياس فاسد، لأن شرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء، وقد علم في الأصول أن من شرط القياس ألّا تكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل، إلاّ أن للمخالف أن يقول: إننا لا نقصد القياس هنا، بل الاستدلال بنفي الفارق، فنقول: لما شرع التيمم بشرط النيّة -ظهر وجوبها في الوضوء فهو بمعنى لا فارق" (4).
جواب ثان: أنّ قياس الوضوء على التيمم هنا ليس لمعرفة حكم النية في
(1) صحيح البخاري.
(2)
المجموع (1/ 264).
(3)
المصدر السابق.
(4)
فتح القدير (1/ 21).
الوضوء ابتداء، فهناك أدلة كثيرة تثبت هذا الحكم غير هذا القياس، وإنما يفيدنا هذا القياس زيادة اطمئنان وتأكد، وتعاضد الدلائل لِإثبات الأمر الواحد مطلوب يسعى إليه العقلاء خاصة وأن إيجاب النية في التيمم مسلم عند الأحناف، فتكون الحجة عليهم أبلغ.
قياس آخر: قالوا: الوضوء عبادة ذات أركان، فوجبت فيها النية كالصلاة (1).
ولكن يردُّ هذا القياس أن الأحناف ومن معهم يقولون بأنّ الوضوء يتأتى غير عبادة، فلا تقوم الحجة عليهم بهذا القياس إلاّ بعد أن ندلّل على أن الوضوء لا يكون إلا عبادة، وهذا قد أقمنا الحجة عليه فيما سبق، يكون القياس صحيحا مثبتا للمطلوب.
(1) المجموع (1/ 365).