الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
أهمية الغاية وعظيم خطرها
الأفعال الإِرادية التي يقوم الِإنسان بها لا بدَّ لها من محركات تدعو الِإنسان إلى فعلها وتحقيقها، وهذه المحركات قد تكون نابعة من حاجة الإنسان إلى أمور معيّنة كالطعام والشراب والنكاح، وقد تكون أهدافا حسّنت وزيّنت له بحيث صارت تلحّ عليه، وتستدعيه إلى تحقيقها لما قام في نفسه من أن الخير في السعي إليها وإيجادها.
وهذه المحرّكات من حيث هي بواعث وتصورات تطلب مرادها- يطلق عليها دواعي وبواعث، ومن حيث إنها شيء خارجي يسعى الإنسان إلى تحقيقه ونيله تصبح هدفا وغاية. ومن العلماء من يقصد بالدواعي مجموع المحرّك القائم بنفس الإنسان والهدف الذي يسعى إلى إيجاده، ونحن سنطلق عليها في الأغلب الغاية، لأننا ننظر إليها من هذا الجانب أكثر مما ننظر إليها من الجانب الآخر، وإن كان بينهما اتصال وثيق ورابطة لا تنفصم.
والغاية التي يتصورها الإنسان ذات تأثير كبير عليه، فالّذين يبذلون أنفسهم في ميادين الحرب والقتال عن رضا وطواعية حريصين على الشهادة ما فعلوا ذلك إلاّ لأنهم يطلبون بالاستشهاد خيرا عظيما.
وقد عُني الحكّام والساسة والقادة والمربُّون والاقتصاديون
…
وغيرهم بدراسة الدوافع والغايات عناية كبيرة، وأفرد "علم النفس الاجتماعي" لهذا الجانب مباحث واسعة، وما ذلك إلاّ لأهميّتها وعظيم فائدتها.
ونحن ندرك بدون عناء كبير بما نلاحظه في أنفسنا وفي نفوس الآخرين من حولنا أنَّ الأهداف التي نرسمها في تصوراتنا تنتصب أمامنا بحيث تشدنا إليها شدا، ولا تزال تشغل عقولنا، وتتراءى لنا مهما شغلنا عنها في غمرات الحياة، ولا نستريح ولا نهدأ حتى ندركها، وإلا بقيت حرة في قلوبنا، وألما ممضًّا في نفوسنا.
ولذلك عني الباحثون على اختلاف مشاربهم بهذا الجانب، كي يعرفوا السبيل الذي يوجه به سلوك الِإنسان نحو ما يريدون تحقيقه وإيجاده، فعلماء التربية يريدون من وراء هذا أن يندفع الناشئة اندفاعا ذاتيا إلى تحقيق الأهداف التي يرسمونها، ويحددونها.
ورجال الاقتصاد يريدون أن يصل الإنتاج إلى قمته، ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا انبعث العمال إلى العمل عن رضا وطواعية معتقدين أن هذا العمل يحقق لهم خيرا وصلاحا
…
وهكذا.
والإسلام جاء لإصلاح النفس الإنسانية، ومنزِّله هو العليم بهذه النفس، ولذلك لم يرغم الِإنسان على اعتناقه والعمل بموجبه، لأن الِإكراه مخالف لفطرة الِإنسان، ومخالف للحكمة التي أوجد الِإنسان من أجلها، ولذلك كان السبيل الذي سلكه الإسلام هو توضيح الغاية التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها، وبيان الأسباب التي تدعو إلى ذلك، والنتائج الخيرة التي ينالها الِإنسان من وراء هذا، وتوضيح العواقب السيئة والآثار البالغة الخطورة المترتبة على التوجه إلى غير الغاية التي رسمها، وعندما نطالع النصوص الِإسلامية في القرآن والحديث ندرك مدى العناية بإيضاح الغاية وتجليتها والكشف عن أبعادها.
ويكفينا في هذا أن نعلم أن الغاية التي يرجوها المسلم من وراء أفعاله هي المعيار الذي يقوّم به عمله، فالأعمال تصبح ذات قيمة أو تفقد قيمتها باعتبار الغاية التي يرمي إليها العامل من عمله، فالذي يصلي ابتغاء مرضاة الله عمله أفضل
الأعمال، والذي يصلي لينال شرفا ومكانة عند الناس عمله شرّ الأعمال، والذي يهاجر استجابة لأمر الله ونصرة لدين الله عمله في المرتبة العليا، والذي يهاجر طلبا لنفع دنيوي: مال يحوزه، أو امرأة يتزوجها، عمله باطل مضمحل، وفي ذلك يقول الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأعْمَال بِالنّيّاتِ، وإنَّمَا لِكلِّ امْرىِء مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللِه وَرَسُولهِ، وَمَنْ كَانتْ هِجْرتهُ لِدُنيا يُصِيبُهَا، أَو امْرَأَةٍ يَنكِحُهَا، فهجْرَتهُ إِلى مَا هاجَرَ إِلَيْهِ"(2).
ومعرفة الغاية الحقيقيَة التي تستثير النفسَ الإنسانيّة هو مفتاح النفوس، فالنفس الإنساية كانت ولا تزال سرّا عجيبا ولغزا معقّدا، أتعب العقول وحيّر الفلاسفة والمفكرين منذ أقدم العصور. ولقد قام العلماء بجهود مضنية كي يصلوا إلى كنه النفس الإنسانية، ويسبروا أغوارها، ولقد ارتدّت بحوث العلماء في كثير من الأحيان إلى ترّهات وتفاهات، لأنهم راموا التوصل إلى شيء لم يعط الإنسان القدرة على الإحاطة به (3)، فروح الإنسان وسر الحياة من مكنونات علم الله:{قلِ الروح منْ أَمْرِ رَبّي} . لقد قرر كثير من الباحثين في العصر الحديث أن النفس الإنسانيّة لا وجود لها، والإِنسان ليس إلا آلة تستجيب لما حولها من مثيرات ومنبهات، ولا تحركها أيّ دوافع داخلية، ويرى كثير من الباحثين أن ما كان يسمّى بالغريزة والدوافع الفطرية يمكن إرجاعه بالتحليل إلى سلسلة من الأفعال المنعكسة (4).
(1) سورة الإسراء (18، 19).
(2)
انظر تخريجه في ملحق الكتاب.
(3)
يقول (لوسين) عالم الطباع الفرنسي: "إن معرفة الإنسان كانت تكتسب الصفة العلمية على قدر هبوطها إلى قطاعات من الحياة الإنسانية، وإنها تفقد هذه الصفة العلمية على قدر صعودها ونفاذها إلى الصميم المعقد، وإلى الأصالة من النفس الإنسانية "علم الطباع ص 27".
(4)
سلوك الإنسان (ص 126).
فالعلماء الماديون ينظرون إلى الِإنسان نظرة مادية صرفة، فهم لا يعترفون بأنَّ في الِإنسان نفحة علوية، ولقد صوّر (فرويد)(1) الِإنسان بأنه مجموعة من الشهوات لا ترتفع عن الواقع المادي، ولا ينطلق من إسارها، فالِإنسان عند هؤلاء مخلوق مشدود إلى هذه الأرض، هي عالمه الذي يعيش فيه ويسعى إليه، وهي منتهى آماله، وغاية مطلوبه.
لقد ضلّ الإنسان وهو يبحث عن أقرب الأشياء إليه: نفسه، لقد أضاع نفسه، وهو يبحث عن نفسه. فريق أنكر حقيقة الإنسان عندما أنكر الروح التي تسري في كيانه، وفريق لم يستطع أن يتعرف على الروح معرفة حقّة، وإن آمن بوجودها، ونتج عن ذلك أن الغاية التي يجب أن يسعى إلى تحقيقها وإيجادها بقيت مجهولة، وأن المنهج الذي يجب أن ننهجه بقي غائبا، وبذلك بقي الِإنسان يعيش في متاهات، ويمضي في الحياة وهو لا يدري.
والموقف الحقّ لا يتمثل في أن نمضي في بحوثنا الرامية إلى معرفة حقيقة النفس الِإنسانية، فذلك سبيل ثبت فشله، وأعلمنا الله بأنَّ نيله لا يستطاع، وإنّما السبيل أن نتعرف على الغاية المثلى التي متى رسمت للنفس الِإنسانية تفاعلت معها، وعملت فيها خيرا، ووجهتها الوجهة التي تتحقق بها سعادتها وهناؤها، وهذا هو الذي جاءَنا به القرآن الكريم. وقد حلّ الإِسلام بذلك اللغز الذي قضى الإِنسان عمره وهو يبحث عنه، حلّه الإِسلام بأيسر سبيل، فالإنسان يطيق أن يتمثل الغاية ويسعى إلى تحقيقها، فيجد نفسه، ويحقق دوره، ويمضي إلى مطلوبه، وبذلك ترتفع عن كاهله الأعباء الجسام التي تراكمت بفعل الضلال الذي لفّ البشرية بسبب الجهل الكبير على مدى قرون متطاولة، وهذا ما سنحاول بيانه إن شاء الله تعالى في هذا الباب.
(1) الإنسان بين المادية والإسلام (ص 31).