المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهمية الغاية وعظيم خطرها - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولتحديدُ مَوضُوع البَحث

- ‌تعريف القصد

- ‌تعريف النيّة

- ‌الاشتقاق اللغوي:

- ‌النيَّة في الاصطلاح

- ‌1 - تعريف النية بالعزم والقصد:

- ‌2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة:

- ‌3 - تعريف النيّة بالإِخلاص:

- ‌4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته:

- ‌النيّة شرعًا

- ‌موقع النية من العلم والعمل

- ‌جنس النيّة في الموجودات

- ‌هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده

- ‌التكليف

- ‌مفهوم العبادة وحدودها

- ‌أصل العبادة ومبناها

- ‌العبادة في مصطلح الفقهاء

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المبحث الثانيالأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

- ‌أولاً: الأدلة القرآنية:

- ‌ثانيًا: الأحاديث النبوية:

- ‌ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري:

- ‌رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:

- ‌خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها:

- ‌سابعًا: تأثير النية فى الأعمال:

- ‌اعتراضات

- ‌المبحث الثالثفَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

- ‌1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله:

- ‌2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات:

- ‌3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:

- ‌4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:

- ‌5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات:

- ‌عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه:

- ‌هذا الحديث من جوامع الكلم:

- ‌البداءة به في المهمات:

- ‌6 - شرفت النيات بموجدها:

- ‌7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها:

- ‌8 - النيّات تميز الأعمال:

- ‌9 - المحوِّل العجيب:

- ‌10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية:

- ‌11 - تربية على اليقظة:

- ‌النية أفضل من العمل:

- ‌الباب الأولالنيات وما يتعلق بها من أحكام

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمَحَلّ النِّية

- ‌مَحَلّ النِّيَّة

- ‌حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

- ‌مناقشة القفال:

- ‌مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

- ‌الجهر بالنيّة

- ‌التلفظ بها همسًا

- ‌هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب

- ‌القصد المجرد عن العمل

- ‌مراتب الإرادة

- ‌الإِرادة غير الجازمة

- ‌لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة

- ‌الإِرادة الجازمة

- ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

- ‌أدلّة القائلين بالمؤاخذة

- ‌الفصل الثانيوَقت النّية

- ‌وقت النية في الطهارة

- ‌وقت النيّة في الصلاة

- ‌القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام:

- ‌القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير:

- ‌القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير:

- ‌تأخير النية

- ‌وقت نية الزكاة

- ‌وقت نيّة الصوم

- ‌تقديم النية في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌1 - القضاء والكفارة:

- ‌2 - صوم رمضان:

- ‌الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:

- ‌أدلتهم:

- ‌النيّة لكلّ يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

- ‌الليل كله وقت للنية

- ‌3 - صوم النذر

- ‌4 - صوم النفل

- ‌المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌الفصل الثالثصفة النِّيَّة

- ‌تمهيد

- ‌صفة نيّة الطهارة

- ‌إذا نوى مطلق الطهارة:

- ‌إذا نوى الغسل أو الوضوء:

- ‌إذا نوى المتطهر رفع الحدث:

- ‌إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها:

- ‌إذا نوى ما تستحب له الطهارة:

- ‌إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له:

- ‌إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها:

- ‌النية للتيمم

- ‌صفة النيّة في العبادات الواجبة

- ‌صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة

- ‌صفة النية في الصوم

- ‌صفة النيّة في الصلاة

- ‌نية الجماعة

- ‌نيّة القضاء والأداء

- ‌نية الجمع

- ‌صفة النية في النوافل

- ‌الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

- ‌قول أعجب وأغرب

- ‌الفصل الرابعشروط النِّيَّة ومبطلاتها

- ‌الشرط الأولأهلية من صدرت عنه النية

- ‌الوضوء والغسل والتيمم من الكافر

- ‌الزكاة من أهل الذمة

- ‌غسل الزوجة الكتابية

- ‌القربات التي أداها المسلم حال كفره

- ‌العبادة من غير المميز

- ‌حج الصغير الذي لا يميز

- ‌نيّة الصبي المميز

- ‌الشرط الثانيالجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

- ‌الشك

- ‌الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي

- ‌اختلطت ثياب طاهرة بنجسة

- ‌الشك في الصلاة التي فاتته

- ‌صيام يوم الشك

- ‌صيام الأسير

- ‌الشك في أصل النية

- ‌التردد في العبادة

- ‌تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما

- ‌الشرط الثالث‌‌استصحاب حكم النية

- ‌استصحاب حكم النية

- ‌رفض النية

- ‌رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌رفض نية العبادة في أثنائها

- ‌قلب النية وتغييرها

- ‌أقسام النيّة التي قلبت

- ‌الأول: نفل فرض إلى فرض:

- ‌الثاني: نقل فرض إلى نفل:

- ‌الثالث: نقل نفل إلى فرض:

- ‌الرابع: نقل نفل إلى نفل:

- ‌تغيير النيَّة

- ‌المنفرد يصبح إماما

- ‌الإمام يصبح مأموما

- ‌المأموم يصبح منفردا

- ‌المنفرد يتحوّل إلى مأموم

- ‌تغيير نية القصر إلى إتمام

- ‌اختلاف نيّة الإمام والمأموم

- ‌الأدلة النقلية

- ‌الاستدلال بالقياس:

- ‌الشرط الرابععدم التشريك في النيّة

- ‌الشرط الخامسأن تتعلق النية بمكتسب للناوي

- ‌الشرط السادسقصد العبادة دفعة واحدة

- ‌الشرط السابعمقارنة النيّة للمنوي

- ‌الشرط الثامنالعلم بصفات المنوي

- ‌الغلط في تعيين المنوي

- ‌الفَصل الخامسالنيَابة في النيَّة

- ‌تمهيد:

- ‌أدلّة الذين منعوا مطلقا

- ‌أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:

- ‌ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات:

- ‌ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

- ‌المجيزون مطلقا

- ‌موقفهم من حجج المانعين:

- ‌أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال:

- ‌موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:

- ‌موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

- ‌تحرير محلّ النزاع

- ‌أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها:

- ‌ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم:

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌حجج المانعين:

- ‌حجج المجيزين:

- ‌النظر في هذه الأدلة:

- ‌مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لَا يفتقِر إليَهَا

- ‌إزالة النجاسات

- ‌الأحداث التي تنقض الطهارة

- ‌النيّة في الوضوء والغسل

- ‌أدلة القائلين بعدم الوجوب

- ‌1 - أن الماء مطهر بطبعه:

- ‌2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية:

- ‌3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه:

- ‌4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية:

- ‌5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة:

- ‌6 - إطلاق النصوص:

- ‌7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة:

- ‌مناقشة الحجج التي أوردوها

- ‌أدلة الموجبين

- ‌أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل:

- ‌ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء:

- ‌ثالثا: القياس:

- ‌النيّة في التيمم

- ‌النيّة في الصلاة

- ‌النيّة في الزكاة

- ‌إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة:

- ‌صوم رمضان

- ‌النيّة في الحجّ والعمرة

- ‌النية في الاعتكاف

- ‌النية في الكفارات

- ‌النيّة لأعمال القلب

- ‌النيّة في الأقوال

- ‌السنة في التروك

- ‌حكم النيّة في العبادات

- ‌(ركن، أم شرط)

- ‌الباب الثانيالإخلاص

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

- ‌لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام

- ‌الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

- ‌الفصل الأولالغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

- ‌الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

- ‌شدة الإخلاص وصعوبته

- ‌لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

- ‌1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:

- ‌2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد:

- ‌3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه:

- ‌4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:

- ‌5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم:

- ‌حكم الإِخلاص في العبادات

- ‌الفصل الثانيمفهومات خاطئة للإخلاص

- ‌1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة

- ‌هل يمكن العمل بدون إرادة:

- ‌الفناء الحق:

- ‌2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

- ‌محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:

- ‌سرّ المسألة:

- ‌3 - قصد النعيم الأخروي

- ‌تنوّع المقاصد الخيّرة

- ‌الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

- ‌أولاً: اتباع الهوى

- ‌تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:

- ‌علاج الهوى

- ‌1 - تحويل الاتجاه:

- ‌2 - تقوية الإرادة:

- ‌3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا:

- ‌4 - محاسبة العبد نفسه:

- ‌ثانيًا: الرياء

- ‌ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين:

- ‌تعريف الرياء

- ‌الرياء لغة:

- ‌الرياء شرعًا:

- ‌الرياء والسمعة:

- ‌الرياء والعجب:

- ‌أسباب الرياء

- ‌الأمور التي يراءى بها

- ‌حكم العمل المراءى به

- ‌مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب:

- ‌شبهة وجوابها:

- ‌تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:

- ‌الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

- ‌الرياء بأوصاف العبادة

- ‌خفاء الرياء وتلونه

- ‌مزلق خطر

- ‌ترك العمل خوف الرياء

- ‌1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته:

- ‌2 - معرفة الرياء والتحرز منه:

- ‌3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:

- ‌4 - النظر في عواقبه الأخروية:

- ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

- ‌علامات القائم بالإِخلاص

- ‌ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

- ‌اعتراضات

- ‌رابعا: الهروب من العبادة

- ‌الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

- ‌الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

- ‌تأثير النيّة في المباحات

- ‌التوفيق بين الرأيين:

- ‌استحضار النية عند المباح:

- ‌تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة

- ‌الفرقة الأولى:

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثالثة:

- ‌التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

- ‌خاتمة القول

- ‌مُلحَقإيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات

- ‌تمهيد:

- ‌الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث

- ‌سبب الحديث

- ‌إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

- ‌كتب السنة التي أخرجته

- ‌هل أخرجه مالك في الموطأ:

- ‌طرق الحديث

- ‌مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

- ‌إشكالات أوردت على الحديث

- ‌1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا:

- ‌2 - أنّه حديث شاذ:

- ‌3 - أن فيه انقطاعا:

- ‌4 - أنه ليس حديثا فردًا:

- ‌5 - أنه متواتر:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

‌تمهيد

‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

الأفعال الإِرادية التي يقوم الِإنسان بها لا بدَّ لها من محركات تدعو الِإنسان إلى فعلها وتحقيقها، وهذه المحركات قد تكون نابعة من حاجة الإنسان إلى أمور معيّنة كالطعام والشراب والنكاح، وقد تكون أهدافا حسّنت وزيّنت له بحيث صارت تلحّ عليه، وتستدعيه إلى تحقيقها لما قام في نفسه من أن الخير في السعي إليها وإيجادها.

وهذه المحرّكات من حيث هي بواعث وتصورات تطلب مرادها- يطلق عليها دواعي وبواعث، ومن حيث إنها شيء خارجي يسعى الإنسان إلى تحقيقه ونيله تصبح هدفا وغاية. ومن العلماء من يقصد بالدواعي مجموع المحرّك القائم بنفس الإنسان والهدف الذي يسعى إلى إيجاده، ونحن سنطلق عليها في الأغلب الغاية، لأننا ننظر إليها من هذا الجانب أكثر مما ننظر إليها من الجانب الآخر، وإن كان بينهما اتصال وثيق ورابطة لا تنفصم.

والغاية التي يتصورها الإنسان ذات تأثير كبير عليه، فالّذين يبذلون أنفسهم في ميادين الحرب والقتال عن رضا وطواعية حريصين على الشهادة ما فعلوا ذلك إلاّ لأنهم يطلبون بالاستشهاد خيرا عظيما.

وقد عُني الحكّام والساسة والقادة والمربُّون والاقتصاديون

وغيرهم بدراسة الدوافع والغايات عناية كبيرة، وأفرد "علم النفس الاجتماعي" لهذا الجانب مباحث واسعة، وما ذلك إلاّ لأهميّتها وعظيم فائدتها.

ص: 347

ونحن ندرك بدون عناء كبير بما نلاحظه في أنفسنا وفي نفوس الآخرين من حولنا أنَّ الأهداف التي نرسمها في تصوراتنا تنتصب أمامنا بحيث تشدنا إليها شدا، ولا تزال تشغل عقولنا، وتتراءى لنا مهما شغلنا عنها في غمرات الحياة، ولا نستريح ولا نهدأ حتى ندركها، وإلا بقيت حرة في قلوبنا، وألما ممضًّا في نفوسنا.

ولذلك عني الباحثون على اختلاف مشاربهم بهذا الجانب، كي يعرفوا السبيل الذي يوجه به سلوك الِإنسان نحو ما يريدون تحقيقه وإيجاده، فعلماء التربية يريدون من وراء هذا أن يندفع الناشئة اندفاعا ذاتيا إلى تحقيق الأهداف التي يرسمونها، ويحددونها.

ورجال الاقتصاد يريدون أن يصل الإنتاج إلى قمته، ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا انبعث العمال إلى العمل عن رضا وطواعية معتقدين أن هذا العمل يحقق لهم خيرا وصلاحا

وهكذا.

والإسلام جاء لإصلاح النفس الإنسانية، ومنزِّله هو العليم بهذه النفس، ولذلك لم يرغم الِإنسان على اعتناقه والعمل بموجبه، لأن الِإكراه مخالف لفطرة الِإنسان، ومخالف للحكمة التي أوجد الِإنسان من أجلها، ولذلك كان السبيل الذي سلكه الإسلام هو توضيح الغاية التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها، وبيان الأسباب التي تدعو إلى ذلك، والنتائج الخيرة التي ينالها الِإنسان من وراء هذا، وتوضيح العواقب السيئة والآثار البالغة الخطورة المترتبة على التوجه إلى غير الغاية التي رسمها، وعندما نطالع النصوص الِإسلامية في القرآن والحديث ندرك مدى العناية بإيضاح الغاية وتجليتها والكشف عن أبعادها.

ويكفينا في هذا أن نعلم أن الغاية التي يرجوها المسلم من وراء أفعاله هي المعيار الذي يقوّم به عمله، فالأعمال تصبح ذات قيمة أو تفقد قيمتها باعتبار الغاية التي يرمي إليها العامل من عمله، فالذي يصلي ابتغاء مرضاة الله عمله أفضل

ص: 348

الأعمال، والذي يصلي لينال شرفا ومكانة عند الناس عمله شرّ الأعمال، والذي يهاجر استجابة لأمر الله ونصرة لدين الله عمله في المرتبة العليا، والذي يهاجر طلبا لنفع دنيوي: مال يحوزه، أو امرأة يتزوجها، عمله باطل مضمحل، وفي ذلك يقول الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأعْمَال بِالنّيّاتِ، وإنَّمَا لِكلِّ امْرىِء مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللِه وَرَسُولهِ، وَمَنْ كَانتْ هِجْرتهُ لِدُنيا يُصِيبُهَا، أَو امْرَأَةٍ يَنكِحُهَا، فهجْرَتهُ إِلى مَا هاجَرَ إِلَيْهِ"(2).

ومعرفة الغاية الحقيقيَة التي تستثير النفسَ الإنسانيّة هو مفتاح النفوس، فالنفس الإنساية كانت ولا تزال سرّا عجيبا ولغزا معقّدا، أتعب العقول وحيّر الفلاسفة والمفكرين منذ أقدم العصور. ولقد قام العلماء بجهود مضنية كي يصلوا إلى كنه النفس الإنسانية، ويسبروا أغوارها، ولقد ارتدّت بحوث العلماء في كثير من الأحيان إلى ترّهات وتفاهات، لأنهم راموا التوصل إلى شيء لم يعط الإنسان القدرة على الإحاطة به (3)، فروح الإنسان وسر الحياة من مكنونات علم الله:{قلِ الروح منْ أَمْرِ رَبّي} . لقد قرر كثير من الباحثين في العصر الحديث أن النفس الإنسانيّة لا وجود لها، والإِنسان ليس إلا آلة تستجيب لما حولها من مثيرات ومنبهات، ولا تحركها أيّ دوافع داخلية، ويرى كثير من الباحثين أن ما كان يسمّى بالغريزة والدوافع الفطرية يمكن إرجاعه بالتحليل إلى سلسلة من الأفعال المنعكسة (4).

(1) سورة الإسراء (18، 19).

(2)

انظر تخريجه في ملحق الكتاب.

(3)

يقول (لوسين) عالم الطباع الفرنسي: "إن معرفة الإنسان كانت تكتسب الصفة العلمية على قدر هبوطها إلى قطاعات من الحياة الإنسانية، وإنها تفقد هذه الصفة العلمية على قدر صعودها ونفاذها إلى الصميم المعقد، وإلى الأصالة من النفس الإنسانية "علم الطباع ص 27".

(4)

سلوك الإنسان (ص 126).

ص: 349

فالعلماء الماديون ينظرون إلى الِإنسان نظرة مادية صرفة، فهم لا يعترفون بأنَّ في الِإنسان نفحة علوية، ولقد صوّر (فرويد)(1) الِإنسان بأنه مجموعة من الشهوات لا ترتفع عن الواقع المادي، ولا ينطلق من إسارها، فالِإنسان عند هؤلاء مخلوق مشدود إلى هذه الأرض، هي عالمه الذي يعيش فيه ويسعى إليه، وهي منتهى آماله، وغاية مطلوبه.

لقد ضلّ الإنسان وهو يبحث عن أقرب الأشياء إليه: نفسه، لقد أضاع نفسه، وهو يبحث عن نفسه. فريق أنكر حقيقة الإنسان عندما أنكر الروح التي تسري في كيانه، وفريق لم يستطع أن يتعرف على الروح معرفة حقّة، وإن آمن بوجودها، ونتج عن ذلك أن الغاية التي يجب أن يسعى إلى تحقيقها وإيجادها بقيت مجهولة، وأن المنهج الذي يجب أن ننهجه بقي غائبا، وبذلك بقي الِإنسان يعيش في متاهات، ويمضي في الحياة وهو لا يدري.

والموقف الحقّ لا يتمثل في أن نمضي في بحوثنا الرامية إلى معرفة حقيقة النفس الِإنسانية، فذلك سبيل ثبت فشله، وأعلمنا الله بأنَّ نيله لا يستطاع، وإنّما السبيل أن نتعرف على الغاية المثلى التي متى رسمت للنفس الِإنسانية تفاعلت معها، وعملت فيها خيرا، ووجهتها الوجهة التي تتحقق بها سعادتها وهناؤها، وهذا هو الذي جاءَنا به القرآن الكريم. وقد حلّ الإِسلام بذلك اللغز الذي قضى الإِنسان عمره وهو يبحث عنه، حلّه الإِسلام بأيسر سبيل، فالإنسان يطيق أن يتمثل الغاية ويسعى إلى تحقيقها، فيجد نفسه، ويحقق دوره، ويمضي إلى مطلوبه، وبذلك ترتفع عن كاهله الأعباء الجسام التي تراكمت بفعل الضلال الذي لفّ البشرية بسبب الجهل الكبير على مدى قرون متطاولة، وهذا ما سنحاول بيانه إن شاء الله تعالى في هذا الباب.

(1) الإنسان بين المادية والإسلام (ص 31).

ص: 350