المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها: - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولتحديدُ مَوضُوع البَحث

- ‌تعريف القصد

- ‌تعريف النيّة

- ‌الاشتقاق اللغوي:

- ‌النيَّة في الاصطلاح

- ‌1 - تعريف النية بالعزم والقصد:

- ‌2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة:

- ‌3 - تعريف النيّة بالإِخلاص:

- ‌4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته:

- ‌النيّة شرعًا

- ‌موقع النية من العلم والعمل

- ‌جنس النيّة في الموجودات

- ‌هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده

- ‌التكليف

- ‌مفهوم العبادة وحدودها

- ‌أصل العبادة ومبناها

- ‌العبادة في مصطلح الفقهاء

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المبحث الثانيالأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

- ‌أولاً: الأدلة القرآنية:

- ‌ثانيًا: الأحاديث النبوية:

- ‌ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري:

- ‌رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:

- ‌خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها:

- ‌سابعًا: تأثير النية فى الأعمال:

- ‌اعتراضات

- ‌المبحث الثالثفَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

- ‌1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله:

- ‌2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات:

- ‌3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:

- ‌4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:

- ‌5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات:

- ‌عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه:

- ‌هذا الحديث من جوامع الكلم:

- ‌البداءة به في المهمات:

- ‌6 - شرفت النيات بموجدها:

- ‌7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها:

- ‌8 - النيّات تميز الأعمال:

- ‌9 - المحوِّل العجيب:

- ‌10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية:

- ‌11 - تربية على اليقظة:

- ‌النية أفضل من العمل:

- ‌الباب الأولالنيات وما يتعلق بها من أحكام

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمَحَلّ النِّية

- ‌مَحَلّ النِّيَّة

- ‌حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

- ‌مناقشة القفال:

- ‌مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

- ‌الجهر بالنيّة

- ‌التلفظ بها همسًا

- ‌هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب

- ‌القصد المجرد عن العمل

- ‌مراتب الإرادة

- ‌الإِرادة غير الجازمة

- ‌لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة

- ‌الإِرادة الجازمة

- ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

- ‌أدلّة القائلين بالمؤاخذة

- ‌الفصل الثانيوَقت النّية

- ‌وقت النية في الطهارة

- ‌وقت النيّة في الصلاة

- ‌القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام:

- ‌القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير:

- ‌القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير:

- ‌تأخير النية

- ‌وقت نية الزكاة

- ‌وقت نيّة الصوم

- ‌تقديم النية في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌1 - القضاء والكفارة:

- ‌2 - صوم رمضان:

- ‌الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:

- ‌أدلتهم:

- ‌النيّة لكلّ يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

- ‌الليل كله وقت للنية

- ‌3 - صوم النذر

- ‌4 - صوم النفل

- ‌المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌الفصل الثالثصفة النِّيَّة

- ‌تمهيد

- ‌صفة نيّة الطهارة

- ‌إذا نوى مطلق الطهارة:

- ‌إذا نوى الغسل أو الوضوء:

- ‌إذا نوى المتطهر رفع الحدث:

- ‌إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها:

- ‌إذا نوى ما تستحب له الطهارة:

- ‌إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له:

- ‌إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها:

- ‌النية للتيمم

- ‌صفة النيّة في العبادات الواجبة

- ‌صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة

- ‌صفة النية في الصوم

- ‌صفة النيّة في الصلاة

- ‌نية الجماعة

- ‌نيّة القضاء والأداء

- ‌نية الجمع

- ‌صفة النية في النوافل

- ‌الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

- ‌قول أعجب وأغرب

- ‌الفصل الرابعشروط النِّيَّة ومبطلاتها

- ‌الشرط الأولأهلية من صدرت عنه النية

- ‌الوضوء والغسل والتيمم من الكافر

- ‌الزكاة من أهل الذمة

- ‌غسل الزوجة الكتابية

- ‌القربات التي أداها المسلم حال كفره

- ‌العبادة من غير المميز

- ‌حج الصغير الذي لا يميز

- ‌نيّة الصبي المميز

- ‌الشرط الثانيالجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

- ‌الشك

- ‌الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي

- ‌اختلطت ثياب طاهرة بنجسة

- ‌الشك في الصلاة التي فاتته

- ‌صيام يوم الشك

- ‌صيام الأسير

- ‌الشك في أصل النية

- ‌التردد في العبادة

- ‌تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما

- ‌الشرط الثالث‌‌استصحاب حكم النية

- ‌استصحاب حكم النية

- ‌رفض النية

- ‌رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌رفض نية العبادة في أثنائها

- ‌قلب النية وتغييرها

- ‌أقسام النيّة التي قلبت

- ‌الأول: نفل فرض إلى فرض:

- ‌الثاني: نقل فرض إلى نفل:

- ‌الثالث: نقل نفل إلى فرض:

- ‌الرابع: نقل نفل إلى نفل:

- ‌تغيير النيَّة

- ‌المنفرد يصبح إماما

- ‌الإمام يصبح مأموما

- ‌المأموم يصبح منفردا

- ‌المنفرد يتحوّل إلى مأموم

- ‌تغيير نية القصر إلى إتمام

- ‌اختلاف نيّة الإمام والمأموم

- ‌الأدلة النقلية

- ‌الاستدلال بالقياس:

- ‌الشرط الرابععدم التشريك في النيّة

- ‌الشرط الخامسأن تتعلق النية بمكتسب للناوي

- ‌الشرط السادسقصد العبادة دفعة واحدة

- ‌الشرط السابعمقارنة النيّة للمنوي

- ‌الشرط الثامنالعلم بصفات المنوي

- ‌الغلط في تعيين المنوي

- ‌الفَصل الخامسالنيَابة في النيَّة

- ‌تمهيد:

- ‌أدلّة الذين منعوا مطلقا

- ‌أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:

- ‌ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات:

- ‌ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

- ‌المجيزون مطلقا

- ‌موقفهم من حجج المانعين:

- ‌أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال:

- ‌موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:

- ‌موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

- ‌تحرير محلّ النزاع

- ‌أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها:

- ‌ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم:

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌حجج المانعين:

- ‌حجج المجيزين:

- ‌النظر في هذه الأدلة:

- ‌مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لَا يفتقِر إليَهَا

- ‌إزالة النجاسات

- ‌الأحداث التي تنقض الطهارة

- ‌النيّة في الوضوء والغسل

- ‌أدلة القائلين بعدم الوجوب

- ‌1 - أن الماء مطهر بطبعه:

- ‌2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية:

- ‌3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه:

- ‌4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية:

- ‌5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة:

- ‌6 - إطلاق النصوص:

- ‌7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة:

- ‌مناقشة الحجج التي أوردوها

- ‌أدلة الموجبين

- ‌أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل:

- ‌ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء:

- ‌ثالثا: القياس:

- ‌النيّة في التيمم

- ‌النيّة في الصلاة

- ‌النيّة في الزكاة

- ‌إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة:

- ‌صوم رمضان

- ‌النيّة في الحجّ والعمرة

- ‌النية في الاعتكاف

- ‌النية في الكفارات

- ‌النيّة لأعمال القلب

- ‌النيّة في الأقوال

- ‌السنة في التروك

- ‌حكم النيّة في العبادات

- ‌(ركن، أم شرط)

- ‌الباب الثانيالإخلاص

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

- ‌لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام

- ‌الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

- ‌الفصل الأولالغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

- ‌الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

- ‌شدة الإخلاص وصعوبته

- ‌لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

- ‌1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:

- ‌2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد:

- ‌3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه:

- ‌4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:

- ‌5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم:

- ‌حكم الإِخلاص في العبادات

- ‌الفصل الثانيمفهومات خاطئة للإخلاص

- ‌1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة

- ‌هل يمكن العمل بدون إرادة:

- ‌الفناء الحق:

- ‌2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

- ‌محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:

- ‌سرّ المسألة:

- ‌3 - قصد النعيم الأخروي

- ‌تنوّع المقاصد الخيّرة

- ‌الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

- ‌أولاً: اتباع الهوى

- ‌تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:

- ‌علاج الهوى

- ‌1 - تحويل الاتجاه:

- ‌2 - تقوية الإرادة:

- ‌3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا:

- ‌4 - محاسبة العبد نفسه:

- ‌ثانيًا: الرياء

- ‌ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين:

- ‌تعريف الرياء

- ‌الرياء لغة:

- ‌الرياء شرعًا:

- ‌الرياء والسمعة:

- ‌الرياء والعجب:

- ‌أسباب الرياء

- ‌الأمور التي يراءى بها

- ‌حكم العمل المراءى به

- ‌مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب:

- ‌شبهة وجوابها:

- ‌تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:

- ‌الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

- ‌الرياء بأوصاف العبادة

- ‌خفاء الرياء وتلونه

- ‌مزلق خطر

- ‌ترك العمل خوف الرياء

- ‌1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته:

- ‌2 - معرفة الرياء والتحرز منه:

- ‌3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:

- ‌4 - النظر في عواقبه الأخروية:

- ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

- ‌علامات القائم بالإِخلاص

- ‌ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

- ‌اعتراضات

- ‌رابعا: الهروب من العبادة

- ‌الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

- ‌الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

- ‌تأثير النيّة في المباحات

- ‌التوفيق بين الرأيين:

- ‌استحضار النية عند المباح:

- ‌تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة

- ‌الفرقة الأولى:

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثالثة:

- ‌التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

- ‌خاتمة القول

- ‌مُلحَقإيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات

- ‌تمهيد:

- ‌الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث

- ‌سبب الحديث

- ‌إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

- ‌كتب السنة التي أخرجته

- ‌هل أخرجه مالك في الموطأ:

- ‌طرق الحديث

- ‌مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

- ‌إشكالات أوردت على الحديث

- ‌1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا:

- ‌2 - أنّه حديث شاذ:

- ‌3 - أن فيه انقطاعا:

- ‌4 - أنه ليس حديثا فردًا:

- ‌5 - أنه متواتر:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

بالمسمّع

). في يوم القيامة، فهو المعتمد. فعند أحمد:"من قام مقام رياء وسمعة راءى الله به يوم القيامة، وسمع به"، وللطبراني من حديث معاذ مرفوعا:"ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمَّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة"(1).

فالمسلم الذي يعلم أن هناك يوم حساب وجزاء، ويعلم شدة حاجته إلى صافي الحسنات غدا في يوم القيامة، يغلب على نفسه الحذر من الرياء، كي يقبل عمله في ذلك اليوم، وكيلا ينفضح.

‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

كان العلماء الأخيار ولا يزالون يحبون إخفاء أعمالهم، حتى لا يخالطها الرياء، ولا يدعون للشيطان مدخلا يشوش عليهم في نياتهم، وقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم المسر بالصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم صنفا آخر يستحق ذلك التكريم، وهو ذلك الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.

وقد نصّ الله نصا صريحا على أفضلية صدقة السر على صدقة العلانية في

قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2).

وقد خص العلماء أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض (3)، واستثنى بعض العلماء أولئك الذين يقتدى ويتأسى بهم، ويكون لأفعالهم تأثير في الناس، فهؤلاء يستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، ولا يكون ذلك إلا لقوَّة إيمانهم وصدق يقينهم.

(1) فتح الباري 11/ 337.

(2)

سورة البقرة / 271.

(3)

تفسير القرطبي3/ 332.

ص: 469

ولم أر من فصَّل القول في هذه المسألة وجلاها كالعز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، فقد عقد فصلا في كتابه قواعد الأحكام في (تفاوت فضل الإسرار والإعلان بالطاعات)(1)، قال فيه: "إن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب: أن الطاعات ثلاثة أضرب:

أحدها: ما يشرع مجهورا كالأذان والِإقامة والتكبير والجهر بالقراءة في الصلاة والخطب الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في إقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد وعيادة المرضى وتشييع الأموات، فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص، فيأتي به مخلصا كما شرع، فيحصل على أجر ذلك الفعل، وعلى أجر المجاهد، لما فيه من المصلحة المتعدية.

الثاني: ما يكون إسراره خير من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.

الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء أو عرف ذلك من عبادته كان الإخفاء أفضل من الإبداء، لقوله تعالى:{وَإنْ تخْفوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفقَرَاءَ فَهُوَ َخْير لَكمْ} (2).

ومن أمن الرياء فله حالان:

أحدهما: ألا يكون ممن يقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار.

والثاني: أن يكون ممن يقتدى به، فالإبداء أولى لما فيه من سدِّ خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء

(1) قواعد الأحكام 1/ 152.

(2)

سورة البقرة / 271.

ص: 470

عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء" (1).

وقد نقل عن السلف الصالح في إخفاء الأعمال التي يستحب أن تخفى أمور تدعو إلى الإعجاب، وتضع أصحابها في مستويات كريمة، تجعلهم أسوة يحتذى ويقتدى بهم في هذا:

ذكر عن ابن سيرين (2) أنه كان يضحك بالنهار، ويبكي بالليل، وكان في ذيل أيوب السختياني (3) بعض الطول، وذلك لأنَّ الشهرة في عصره كانت بتقصير الثوب، وكان ابن أدهم (4) إذا مرض يرى عنده ما يأكله الأصحاء (5).

إلاّ أنَّه لا ينبغي أن يبالغ المسلم في إخفاء العمل بحيث يزري على نفسه في ذلك، فبعض النّاس يفعلون أمورا يلامون عليها، لكيلا تظهر أعمالهم، ومما يروي وهب بن منبه (6) في هذا عن رجل من الأمم المتقدمة قال: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار، فيعظَّم، فاجتمعوا إليه ذات يوم، فقال: إنّا قد خرجنا من الدنيا، وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفت أن يكون قد

(1) بقيت قضية لم يتعرض لها العز رحمه الله تعالى، وهي كتمان الذنوب وإخفاؤها: فقد يظن بعض الناس أن ذلك من الرياء، وهذا غير صحيح، فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه المعصية كان له سترها، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل". (انظر مختصر منهاج القاصدين ص 233).

(2)

هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، من رواة الحديث استقر بالبصرة، واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، وله فيها كتاب، ولد (33 هـ)، وتوفي (110 هـ).

راجع: (تهذيب التهذيب 9/ 214)، (معجم المؤلفين 10/ 57).

(3)

هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري، سيد فقهاء عصره، تابعي من النساك، ولد سنة (66 هـ)، وتوفي سنة (131 هـ).

راجع. (تهذيب التهذيب 1/ 297)، الكاشف 1/ 145، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 110).

(4)

هو إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي، كان أبوه من أغنياء بلخ، فزهد في مال أبيه، وكان يأكل من كسب يده، واشتهر بالزهد، واشترك في غزو الروم، توفي (161 هـ). راجع (الأعلام 1/ 24).

(5)

تلبيس إبليس ص 171.

(6)

هو وهب بن منبه الأنباري الصنعاني مؤرخ كثير الأخبار في الكتب القديمة، له (قصص الأنبياء)، و (قصص الأخبار)، ولد عام (34 هـ)، وتوفي في عام (114 هـ).

راجع: (تهذيب التهذيب 11/ 166)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 138)، (الكاشف 3/ 245).

ص: 471

دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له حاجته، وإن اشترى أن يقارب لمكان دينه. فشاع ذلك الكلام، حتى بلغ الملك، فأعجب به، فركب إليه ليسلِّم عليه، ولينظر إليه، فلما رآه الرجل قيل له: هذا الملك قد أتاك، ليسلّم عليك، فقال: وما يصنع؟ قال: للكلام الذي وعظت به، فسأل غلامه هل عندك طعام؟ فقال: شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به، فأمر به، فأتي على مسح، فوضع بين يديه، فأخذ يأكل منه، وكان يصوم النهار، ولا يفطر، فوقف عليه الملك، فسلَّم عليه، فأجابه إجابة ضعيفة، وأقبل على طعامه، يأكله، فقال الملك: أين الرجل؟ فقيل له هو هذا، قال: هذا الذي يأكل؟ قالوا: نعم، قال: فما عند هذا من خير، فأدبر، فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به" (1).

وفي رواية أخرى عن وهب: "أنّه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه، فجعل يضع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت، فيأكل أكلا عنيفا، فقال له الملك: كيف أنت يا فلان؟ فقال: كالناس. فردَّ الملك عنان دابته، وقال: ما في هذا من خير. فقال: الحمد لله الذي أذهبه عني، وهو لائم لي"(2).

وذكر ابن الجوزي قصة قريبة الشبه بهذه، فقد ذكر أنَّ الوليد بن عبد الملك (3) أراد أن يولي يزيد بن مرثد (4)، فبلغ ذلك يزيد فما كان من يزيد إلاّ أن تظاهر بالجنون، فقد لبس فروة، فجعل الجلد على ظهره، والصوف خارجا، وأخذ بيده

(1) تلبيس إبليس ص 171، 172.

(2)

تلبيس إبليس ص 171، 172.

وهذه القصة من الإسرائيليات التي لا تكذب ولا تصدق، وقوله في القصة أن يقارب مأخوذ من قاربه: أي حادثه بكلام حسن، وقارب في الأمر ترك الغلو به. والمسح: اللباس أو الكساء من الشعر، والعنان: سير اللجام. والمنهج الصواب -إن شاء الله تعالى- أن من ظهر عمله ولم يقصد إظهاره ومدحه للناس بذلك لا ينبغي له أن يستاء، فتلك بشرى عاجلة فليفرح بفضل الله -عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن". أخرجه مسلم.

(3)

هو الوليد بن عبد الملك من ملوك الدولة الأموية في الشام، وسع رقعة الدولة الإسلامية، وأجرى إصلاحات هامة في الدولة، توفي في الشام عام (96 هـ). راجع:(شذرات الذهب 1/ 111)، (الأعلام 1/ 111).

(4)

هو يزيد بن مرثد الهمداني أبو عثمان الدمشقي، روى الحديث عن شداد بن أوس، وعنه خالد بن معدان وعطاء. راجع:(تهذيب التهذيب 1/ 358)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 176).

ص: 472