الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمسمّع
…
). في يوم القيامة، فهو المعتمد. فعند أحمد:"من قام مقام رياء وسمعة راءى الله به يوم القيامة، وسمع به"، وللطبراني من حديث معاذ مرفوعا:"ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمَّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة"(1).
فالمسلم الذي يعلم أن هناك يوم حساب وجزاء، ويعلم شدة حاجته إلى صافي الحسنات غدا في يوم القيامة، يغلب على نفسه الحذر من الرياء، كي يقبل عمله في ذلك اليوم، وكيلا ينفضح.
5 - إخفاء العبادة وإسرارها:
كان العلماء الأخيار ولا يزالون يحبون إخفاء أعمالهم، حتى لا يخالطها الرياء، ولا يدعون للشيطان مدخلا يشوش عليهم في نياتهم، وقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم المسر بالصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم صنفا آخر يستحق ذلك التكريم، وهو ذلك الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
وقد نصّ الله نصا صريحا على أفضلية صدقة السر على صدقة العلانية في
وقد خص العلماء أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض (3)، واستثنى بعض العلماء أولئك الذين يقتدى ويتأسى بهم، ويكون لأفعالهم تأثير في الناس، فهؤلاء يستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، ولا يكون ذلك إلا لقوَّة إيمانهم وصدق يقينهم.
(1) فتح الباري 11/ 337.
(2)
سورة البقرة / 271.
(3)
تفسير القرطبي3/ 332.
ولم أر من فصَّل القول في هذه المسألة وجلاها كالعز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، فقد عقد فصلا في كتابه قواعد الأحكام في (تفاوت فضل الإسرار والإعلان بالطاعات)(1)، قال فيه: "إن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب: أن الطاعات ثلاثة أضرب:
أحدها: ما يشرع مجهورا كالأذان والِإقامة والتكبير والجهر بالقراءة في الصلاة والخطب الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في إقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد وعيادة المرضى وتشييع الأموات، فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص، فيأتي به مخلصا كما شرع، فيحصل على أجر ذلك الفعل، وعلى أجر المجاهد، لما فيه من المصلحة المتعدية.
الثاني: ما يكون إسراره خير من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء أو عرف ذلك من عبادته كان الإخفاء أفضل من الإبداء، لقوله تعالى:{وَإنْ تخْفوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفقَرَاءَ فَهُوَ َخْير لَكمْ} (2).
ومن أمن الرياء فله حالان:
أحدهما: ألا يكون ممن يقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار.
والثاني: أن يكون ممن يقتدى به، فالإبداء أولى لما فيه من سدِّ خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء
(1) قواعد الأحكام 1/ 152.
(2)
سورة البقرة / 271.
عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء" (1).
وقد نقل عن السلف الصالح في إخفاء الأعمال التي يستحب أن تخفى أمور تدعو إلى الإعجاب، وتضع أصحابها في مستويات كريمة، تجعلهم أسوة يحتذى ويقتدى بهم في هذا:
ذكر عن ابن سيرين (2) أنه كان يضحك بالنهار، ويبكي بالليل، وكان في ذيل أيوب السختياني (3) بعض الطول، وذلك لأنَّ الشهرة في عصره كانت بتقصير الثوب، وكان ابن أدهم (4) إذا مرض يرى عنده ما يأكله الأصحاء (5).
إلاّ أنَّه لا ينبغي أن يبالغ المسلم في إخفاء العمل بحيث يزري على نفسه في ذلك، فبعض النّاس يفعلون أمورا يلامون عليها، لكيلا تظهر أعمالهم، ومما يروي وهب بن منبه (6) في هذا عن رجل من الأمم المتقدمة قال: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار، فيعظَّم، فاجتمعوا إليه ذات يوم، فقال: إنّا قد خرجنا من الدنيا، وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفت أن يكون قد
(1) بقيت قضية لم يتعرض لها العز رحمه الله تعالى، وهي كتمان الذنوب وإخفاؤها: فقد يظن بعض الناس أن ذلك من الرياء، وهذا غير صحيح، فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه المعصية كان له سترها، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل". (انظر مختصر منهاج القاصدين ص 233).
(2)
هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، من رواة الحديث استقر بالبصرة، واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، وله فيها كتاب، ولد (33 هـ)، وتوفي (110 هـ).
راجع: (تهذيب التهذيب 9/ 214)، (معجم المؤلفين 10/ 57).
(3)
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري، سيد فقهاء عصره، تابعي من النساك، ولد سنة (66 هـ)، وتوفي سنة (131 هـ).
راجع. (تهذيب التهذيب 1/ 297)، الكاشف 1/ 145، (خلاصة تذهيب الكمال 1/ 110).
(4)
هو إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي، كان أبوه من أغنياء بلخ، فزهد في مال أبيه، وكان يأكل من كسب يده، واشتهر بالزهد، واشترك في غزو الروم، توفي (161 هـ). راجع (الأعلام 1/ 24).
(5)
تلبيس إبليس ص 171.
(6)
هو وهب بن منبه الأنباري الصنعاني مؤرخ كثير الأخبار في الكتب القديمة، له (قصص الأنبياء)، و (قصص الأخبار)، ولد عام (34 هـ)، وتوفي في عام (114 هـ).
راجع: (تهذيب التهذيب 11/ 166)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 138)، (الكاشف 3/ 245).
دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له حاجته، وإن اشترى أن يقارب لمكان دينه. فشاع ذلك الكلام، حتى بلغ الملك، فأعجب به، فركب إليه ليسلِّم عليه، ولينظر إليه، فلما رآه الرجل قيل له: هذا الملك قد أتاك، ليسلّم عليك، فقال: وما يصنع؟ قال: للكلام الذي وعظت به، فسأل غلامه هل عندك طعام؟ فقال: شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به، فأمر به، فأتي على مسح، فوضع بين يديه، فأخذ يأكل منه، وكان يصوم النهار، ولا يفطر، فوقف عليه الملك، فسلَّم عليه، فأجابه إجابة ضعيفة، وأقبل على طعامه، يأكله، فقال الملك: أين الرجل؟ فقيل له هو هذا، قال: هذا الذي يأكل؟ قالوا: نعم، قال: فما عند هذا من خير، فأدبر، فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به" (1).
وفي رواية أخرى عن وهب: "أنّه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه، فجعل يضع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت، فيأكل أكلا عنيفا، فقال له الملك: كيف أنت يا فلان؟ فقال: كالناس. فردَّ الملك عنان دابته، وقال: ما في هذا من خير. فقال: الحمد لله الذي أذهبه عني، وهو لائم لي"(2).
وذكر ابن الجوزي قصة قريبة الشبه بهذه، فقد ذكر أنَّ الوليد بن عبد الملك (3) أراد أن يولي يزيد بن مرثد (4)، فبلغ ذلك يزيد فما كان من يزيد إلاّ أن تظاهر بالجنون، فقد لبس فروة، فجعل الجلد على ظهره، والصوف خارجا، وأخذ بيده
(1) تلبيس إبليس ص 171، 172.
(2)
تلبيس إبليس ص 171، 172.
وهذه القصة من الإسرائيليات التي لا تكذب ولا تصدق، وقوله في القصة أن يقارب مأخوذ من قاربه: أي حادثه بكلام حسن، وقارب في الأمر ترك الغلو به. والمسح: اللباس أو الكساء من الشعر، والعنان: سير اللجام. والمنهج الصواب -إن شاء الله تعالى- أن من ظهر عمله ولم يقصد إظهاره ومدحه للناس بذلك لا ينبغي له أن يستاء، فتلك بشرى عاجلة فليفرح بفضل الله -عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن". أخرجه مسلم.
(3)
هو الوليد بن عبد الملك من ملوك الدولة الأموية في الشام، وسع رقعة الدولة الإسلامية، وأجرى إصلاحات هامة في الدولة، توفي في الشام عام (96 هـ). راجع:(شذرات الذهب 1/ 111)، (الأعلام 1/ 111).
(4)
هو يزيد بن مرثد الهمداني أبو عثمان الدمشقي، روى الحديث عن شداد بن أوس، وعنه خالد بن معدان وعطاء. راجع:(تهذيب التهذيب 1/ 358)، (خلاصة تذهيب الكمال 3/ 176).