المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والعمل والكفاح في الحياة لبناء الحضارة الِإنسانية الخيرة، ويسدّ الثغرات - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

[عمر سليمان الأشقر]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولتحديدُ مَوضُوع البَحث

- ‌تعريف القصد

- ‌تعريف النيّة

- ‌الاشتقاق اللغوي:

- ‌النيَّة في الاصطلاح

- ‌1 - تعريف النية بالعزم والقصد:

- ‌2 - تعريف النية بأنَّها الإرادة:

- ‌3 - تعريف النيّة بالإِخلاص:

- ‌4 - تعريف النية بأنَّها عمل القلب ووجهته:

- ‌النيّة شرعًا

- ‌موقع النية من العلم والعمل

- ‌جنس النيّة في الموجودات

- ‌هل للإِنسان سلطان على نيّته وقصده

- ‌التكليف

- ‌مفهوم العبادة وحدودها

- ‌أصل العبادة ومبناها

- ‌العبادة في مصطلح الفقهاء

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المبحث الثانيالأدلّة على أنّ المقاصدَ مُعتبرة في العبادات والتصرفات

- ‌أولاً: الأدلة القرآنية:

- ‌ثانيًا: الأحاديث النبوية:

- ‌ثالثا: القصد إلى الفعل أمر ضروري:

- ‌رابعًا: عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:

- ‌خامسًا: النيّة سر العبودية وروحها:

- ‌سابعًا: تأثير النية فى الأعمال:

- ‌اعتراضات

- ‌المبحث الثالثفَضل المقَاصد وعظيم خَطرهَا

- ‌1 - يبلغ المرء بنيّته ما لا يبلغه بعمله:

- ‌2 - الخلود في الجنّة أو النّار بالنيّات:

- ‌3 - الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:

- ‌4 - قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:

- ‌5 - اهتمام العلماء بأمر النيّات:

- ‌عَدْوه ربع العلم أو ثلثه أو نصفه:

- ‌هذا الحديث من جوامع الكلم:

- ‌البداءة به في المهمات:

- ‌6 - شرفت النيات بموجدها:

- ‌7 - العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها:

- ‌8 - النيّات تميز الأعمال:

- ‌9 - المحوِّل العجيب:

- ‌10 - النيّة عمل السر وعمل السر أفضل من عمل العلانية:

- ‌11 - تربية على اليقظة:

- ‌النية أفضل من العمل:

- ‌الباب الأولالنيات وما يتعلق بها من أحكام

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمَحَلّ النِّية

- ‌مَحَلّ النِّيَّة

- ‌حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب

- ‌مناقشة القفال:

- ‌مخالفة اللسان لما نواه في قلبه

- ‌الجهر بالنيّة

- ‌التلفظ بها همسًا

- ‌هل ينعقد العمل بالنيّة فحسب

- ‌القصد المجرد عن العمل

- ‌مراتب الإرادة

- ‌الإِرادة غير الجازمة

- ‌لم أثيب الهامّ بالحسنة ولم يُعاقب على الهم بالسيئة

- ‌الإِرادة الجازمة

- ‌الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:

- ‌أدلّة القائلين بالمؤاخذة

- ‌الفصل الثانيوَقت النّية

- ‌وقت النية في الطهارة

- ‌وقت النيّة في الصلاة

- ‌القول الأول: وجوب المقارنة تكبيرة الإحرام:

- ‌القول الثاني: جواز تقدّم النيّة على التكبير بزمن يسير:

- ‌القول الثالث: وجوب تقديم النية على التكبير:

- ‌تأخير النية

- ‌وقت نية الزكاة

- ‌وقت نيّة الصوم

- ‌تقديم النية في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌1 - القضاء والكفارة:

- ‌2 - صوم رمضان:

- ‌الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:

- ‌أدلتهم:

- ‌النيّة لكلّ يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

- ‌الليل كله وقت للنية

- ‌3 - صوم النذر

- ‌4 - صوم النفل

- ‌المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌الفصل الثالثصفة النِّيَّة

- ‌تمهيد

- ‌صفة نيّة الطهارة

- ‌إذا نوى مطلق الطهارة:

- ‌إذا نوى الغسل أو الوضوء:

- ‌إذا نوى المتطهر رفع الحدث:

- ‌إذا نوى المتطهر الطهارة لأمر لا يستباح إلا بها:

- ‌إذا نوى ما تستحب له الطهارة:

- ‌إذا نوى ما لا تشرع الطهارة له:

- ‌إذا نوى من عليه أحداث رفع أحدها:

- ‌النية للتيمم

- ‌صفة النيّة في العبادات الواجبة

- ‌صفة النيّة في الزكاة والحج والعمرة

- ‌صفة النية في الصوم

- ‌صفة النيّة في الصلاة

- ‌نية الجماعة

- ‌نيّة القضاء والأداء

- ‌نية الجمع

- ‌صفة النية في النوافل

- ‌الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة

- ‌قول أعجب وأغرب

- ‌الفصل الرابعشروط النِّيَّة ومبطلاتها

- ‌الشرط الأولأهلية من صدرت عنه النية

- ‌الوضوء والغسل والتيمم من الكافر

- ‌الزكاة من أهل الذمة

- ‌غسل الزوجة الكتابية

- ‌القربات التي أداها المسلم حال كفره

- ‌العبادة من غير المميز

- ‌حج الصغير الذي لا يميز

- ‌نيّة الصبي المميز

- ‌الشرط الثانيالجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق

- ‌الشك

- ‌الشك بسبب عدم علمه بأمور تتعلق بالمنوي

- ‌اختلطت ثياب طاهرة بنجسة

- ‌الشك في الصلاة التي فاتته

- ‌صيام يوم الشك

- ‌صيام الأسير

- ‌الشك في أصل النية

- ‌التردد في العبادة

- ‌تعليق النية على المشيئة أو على حصول شيء ما

- ‌الشرط الثالث‌‌استصحاب حكم النية

- ‌استصحاب حكم النية

- ‌رفض النية

- ‌رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌رفض نية العبادة في أثنائها

- ‌قلب النية وتغييرها

- ‌أقسام النيّة التي قلبت

- ‌الأول: نفل فرض إلى فرض:

- ‌الثاني: نقل فرض إلى نفل:

- ‌الثالث: نقل نفل إلى فرض:

- ‌الرابع: نقل نفل إلى نفل:

- ‌تغيير النيَّة

- ‌المنفرد يصبح إماما

- ‌الإمام يصبح مأموما

- ‌المأموم يصبح منفردا

- ‌المنفرد يتحوّل إلى مأموم

- ‌تغيير نية القصر إلى إتمام

- ‌اختلاف نيّة الإمام والمأموم

- ‌الأدلة النقلية

- ‌الاستدلال بالقياس:

- ‌الشرط الرابععدم التشريك في النيّة

- ‌الشرط الخامسأن تتعلق النية بمكتسب للناوي

- ‌الشرط السادسقصد العبادة دفعة واحدة

- ‌الشرط السابعمقارنة النيّة للمنوي

- ‌الشرط الثامنالعلم بصفات المنوي

- ‌الغلط في تعيين المنوي

- ‌الفَصل الخامسالنيَابة في النيَّة

- ‌تمهيد:

- ‌أدلّة الذين منعوا مطلقا

- ‌أولا: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:

- ‌ثانيا: النصوص المصرّحة بمنع النيابة في بعض العبادات:

- ‌ثالثا: قالوا جواز النيابة فى العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

- ‌المجيزون مطلقا

- ‌موقفهم من حجج المانعين:

- ‌أدلّة المجيزين للنيابة مطلقا أو في حال دون حال:

- ‌موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:

- ‌موقف الدين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

- ‌تحرير محلّ النزاع

- ‌أولا: عبادات لا مجال للنيابة فيها:

- ‌ثانيا: الذين لا تجوز النيابة عنهم:

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌حجج المانعين:

- ‌حجج المجيزين:

- ‌النظر في هذه الأدلة:

- ‌مَا يفتَقِر إلى النِّيَّة وَمَا لَا يفتقِر إليَهَا

- ‌إزالة النجاسات

- ‌الأحداث التي تنقض الطهارة

- ‌النيّة في الوضوء والغسل

- ‌أدلة القائلين بعدم الوجوب

- ‌1 - أن الماء مطهر بطبعه:

- ‌2 - أن المعتبر في الوضوء لا يتوقف على النَّية:

- ‌3 - الوضوء يتحقق المقصود منه بنفس وقوعه:

- ‌4 - الوضوء وسيلة لغيره، والوسائل لا تلزمها النية:

- ‌5 - الوضوء شرط والشروط لا تحتاج إلى نيّة:

- ‌6 - إطلاق النصوص:

- ‌7 - دليل النية ظني الثبوت ظني الدلالة:

- ‌مناقشة الحجج التي أوردوها

- ‌أدلة الموجبين

- ‌أولا: الأحاديث المبينة فضل المتوضىء والمغتسل:

- ‌ثانيا: نصوص زعموا أنها توجب النية في الوضوء:

- ‌ثالثا: القياس:

- ‌النيّة في التيمم

- ‌النيّة في الصلاة

- ‌النيّة في الزكاة

- ‌إذا تصدَّق بجميع ماله ولم ينو الزكاة:

- ‌صوم رمضان

- ‌النيّة في الحجّ والعمرة

- ‌النية في الاعتكاف

- ‌النية في الكفارات

- ‌النيّة لأعمال القلب

- ‌النيّة في الأقوال

- ‌السنة في التروك

- ‌حكم النيّة في العبادات

- ‌(ركن، أم شرط)

- ‌الباب الثانيالإخلاص

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الغاية وعظيم خطرها

- ‌لا غنى للبشرية عن الغاية التي يرسمها الإِسلام

- ‌الدواعي الطبعية والدواعي الشرعية

- ‌الفصل الأولالغاية التي تتوجَّه إليها مقاصدُ المكلّفين

- ‌الغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص

- ‌شدة الإخلاص وصعوبته

- ‌لماذا كان الله هو المقصود دون سواه

- ‌1 - الغاية التي ليس وراءها غاية:

- ‌2 - هو المستحقُّ لأن يقصد ويعبد:

- ‌3 - السعادة في قصده، والشقاء في توجيه القلوب إلى سواه:

- ‌4 - لا سبيل إلى تحرر النفس الِإنسانية إلاّ بتوجهها إليه:

- ‌5 - عنى الله عن العباد وإحسانه إليهم:

- ‌حكم الإِخلاص في العبادات

- ‌الفصل الثانيمفهومات خاطئة للإخلاص

- ‌1 - الِإخلاص والتجرد عن الِإرادة

- ‌هل يمكن العمل بدون إرادة:

- ‌الفناء الحق:

- ‌2 - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية

- ‌محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الاتجاه:

- ‌سرّ المسألة:

- ‌3 - قصد النعيم الأخروي

- ‌تنوّع المقاصد الخيّرة

- ‌الفصل الثّالِث المقاصد السَّيّئة

- ‌أولاً: اتباع الهوى

- ‌تعريف الهوى وبيان نتائجه وآثاره:

- ‌علاج الهوى

- ‌1 - تحويل الاتجاه:

- ‌2 - تقوية الإرادة:

- ‌3 - إحياء واعظ الله في قلوبنا:

- ‌4 - محاسبة العبد نفسه:

- ‌ثانيًا: الرياء

- ‌ومن النصوص القرآنية التي تتوعّد المرائين:

- ‌تعريف الرياء

- ‌الرياء لغة:

- ‌الرياء شرعًا:

- ‌الرياء والسمعة:

- ‌الرياء والعجب:

- ‌أسباب الرياء

- ‌الأمور التي يراءى بها

- ‌حكم العمل المراءى به

- ‌مناقشة ما احتج به أصحاب هذا المذهب:

- ‌شبهة وجوابها:

- ‌تحقيق القول في قصد المكلف المصالح التي أقر الشارع قصدها بالعبادة:

- ‌الغنيمة في الحرب والتجارة في الحج تنقصان الأجر

- ‌الرياء بأوصاف العبادة

- ‌خفاء الرياء وتلونه

- ‌مزلق خطر

- ‌ترك العمل خوف الرياء

- ‌1 - الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء ومراقبته:

- ‌2 - معرفة الرياء والتحرز منه:

- ‌3 - النظر في عاقبة الرياء في الدنيا:

- ‌4 - النظر في عواقبه الأخروية:

- ‌5 - إخفاء العبادة وإسرارها:

- ‌علامات القائم بالإِخلاص

- ‌ثالثا: التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة

- ‌اعتراضات

- ‌رابعا: الهروب من العبادة

- ‌الأمر الضابط لمقاصد المكلفين

- ‌الفصل الرابع تأثيرُ القَصْد في الأفعال

- ‌تأثير النيّة في المباحات

- ‌التوفيق بين الرأيين:

- ‌استحضار النية عند المباح:

- ‌تأثير النيّة في الأفعال المحرّمة

- ‌الفرقة الأولى:

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثالثة:

- ‌التقرب إلى الله بالعبادات المبتدعة

- ‌خاتمة القول

- ‌مُلحَقإيضاحات مهمة تتعلق بحديث "إنمّا الأعمال بالنيّات

- ‌تمهيد:

- ‌الألفاظ التي وردت بها روايات الحديث

- ‌سبب الحديث

- ‌إشكال يرد على الحديث باعتبار سببه

- ‌كتب السنة التي أخرجته

- ‌هل أخرجه مالك في الموطأ:

- ‌طرق الحديث

- ‌مخطط يوضح طرق الحديث في كتب السنة

- ‌إشكالات أوردت على الحديث

- ‌1 - تضعيف الحديث لكونه غريبًا:

- ‌2 - أنّه حديث شاذ:

- ‌3 - أن فيه انقطاعا:

- ‌4 - أنه ليس حديثا فردًا:

- ‌5 - أنه متواتر:

- ‌قائمة المراجع

الفصل: والعمل والكفاح في الحياة لبناء الحضارة الِإنسانية الخيرة، ويسدّ الثغرات

والعمل والكفاح في الحياة لبناء الحضارة الِإنسانية الخيرة، ويسدّ الثغرات التي تظهر في العالم المادي نتيجة للدوافع الحيوانية التي تولّد الصراع الحادّ في أعماق نفس الإنسان، والتي تظهر على شكل مظاهر كثيرة متنوعة من الفساد العام الذي يصيب الفرد والجماعة، فيتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع يسود فيه منطق الأقوياء الجشعين والناهبين الظالمين والمفسدين الضالين.

إنّ النظام الروحي في الإسلام يحافظ على الحضارة الإنسانية من أن تتحول إلى أداة شقاء، وبؤرة مرض، كما حدث في الحضارة الحديثة، عندما يتحول الِإنسان في ظلها إلى آلة جامدة، ثمَّ إلى مجموعة عقد مرضية، ثم إلى انحراف خطير، ولّد الثغرة الكبرى والفراغ الهائل الذي يريد المربون معالجته، ولكن بدون جدوى؛ ذلك لأنَّهم عندما جزؤوا الإنسان، وعالجوه مقطع الأوصال، لم يصيبوا كبد الحقيقة، ولم يدركوا حقيقته الكبرى من حيث هو كائن ثنائي التركيب، مركب من المادة والروح، وليس نموذجا من النماذج الحيوانية الكثيرة المنتشرة على الكرة الأرضية.

‌سرّ المسألة:

وسرّ المسألة أنَّ أصحاب هذا الاتجاه من المسلمين ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها- مزاحم للقصد المتجه إلى الله فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلمّا وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد.

ولا يفوتنا -ونحن نبحث في أصل المسألة- أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أنَّ الشارع قصد فى وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل،

ص: 398

وقد دل على هذا استقراء العلماء للشريعة في أعظم مصدرين: الكتاب والسنة، وقد دلَّ استقراؤهم على أنَّ هذا الأمر (القول بأن الشريعة وضعت لمصالح العباد) مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. وإن الاستدلال مفيد للعلم لكثرة الأدلة الدالة على ذلك (1)، فإذا كان هذا مقرَّرا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصابيح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟

لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العبّاد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها- لكان هذا القول مرضيا ومقبولا، لأن المكلف مطالبا بألَّا يتوجه ولا يقصد إلاّ ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أنَّ الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة.

ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف لأنّها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره، ويحفظ عليه دنياه وأخراه. ويحسن أن نقرّر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها -سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها- لا يضاد الإِخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال.

ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين، لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم، إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال.

كيف نريد من الذي يريد طهارة -وضوءًا أو غسلا- ألاّ يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى- التنظف والتطيب! وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان

(1) الموافقات 2/ 3، 4.

ص: 399

ألا يقصد التبرد وإنعاش نفسه! فإن قصد هذا القصد حكما على عمله بالبطلان والفساد؟! وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي يتصرف عما تحسّه وتطلبه، فكيف السبيل إلي أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل!

ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذتها ثم يطيق ألّا يقصد هذا النعيم؟! وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سدّ خلَّة الفقير وصلة الأرحام، وتقديم الخير لبني الإنسان، نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟!.

ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!

ألم يقرّنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبّه ونرضاه: {وَأخرَى تُحِبّونَهَا نصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيب} (1)!

وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها! فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التى شرعها، وأبتعد عما حزم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتى تحبها النفس وتتطلبها منها؟!

إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين: أطباء ومهندسين وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال.

لا يجوز أن يحتجّ علينا في هذا بأنَّ الشارع لم يرتض أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية، بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا،

(1) سورة الصف /13.

ص: 400

وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله- لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع.

نعم نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع فنطلبه مع أنه -في واقع الأمر- ليس بمطلوب ولا مقصود له.

وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلاّ المصالح التي نص الشارع عليها، والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا.

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من النّاس وإنما هي شريعة عامة، جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه. لننظر في هذه المرغبات التي يجلّيها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (1). ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2). ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3)، {وَمَنْ يَتقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يسْرًا} (4).

(1) سورة نوح /10 - 12.

(2)

سورة النور / 55.

(3)

سورة الطلاق /2 - 3.

(4)

سورة الطلاق /4.

ص: 401

هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه -وايم الله - العبودية الحقّة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1). نعم لو قالوا كما قال الشاطبي (2): بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله- لكان قولهم صوابا.

(1) سورة البقرة /201 - 202.

(2)

الموافقات 1/ 147.

ص: 402