الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعمل والكفاح في الحياة لبناء الحضارة الِإنسانية الخيرة، ويسدّ الثغرات التي تظهر في العالم المادي نتيجة للدوافع الحيوانية التي تولّد الصراع الحادّ في أعماق نفس الإنسان، والتي تظهر على شكل مظاهر كثيرة متنوعة من الفساد العام الذي يصيب الفرد والجماعة، فيتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع يسود فيه منطق الأقوياء الجشعين والناهبين الظالمين والمفسدين الضالين.
إنّ النظام الروحي في الإسلام يحافظ على الحضارة الإنسانية من أن تتحول إلى أداة شقاء، وبؤرة مرض، كما حدث في الحضارة الحديثة، عندما يتحول الِإنسان في ظلها إلى آلة جامدة، ثمَّ إلى مجموعة عقد مرضية، ثم إلى انحراف خطير، ولّد الثغرة الكبرى والفراغ الهائل الذي يريد المربون معالجته، ولكن بدون جدوى؛ ذلك لأنَّهم عندما جزؤوا الإنسان، وعالجوه مقطع الأوصال، لم يصيبوا كبد الحقيقة، ولم يدركوا حقيقته الكبرى من حيث هو كائن ثنائي التركيب، مركب من المادة والروح، وليس نموذجا من النماذج الحيوانية الكثيرة المنتشرة على الكرة الأرضية.
سرّ المسألة:
وسرّ المسألة أنَّ أصحاب هذا الاتجاه من المسلمين ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها- مزاحم للقصد المتجه إلى الله فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلمّا وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد.
ولا يفوتنا -ونحن نبحث في أصل المسألة- أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أنَّ الشارع قصد فى وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل،
وقد دل على هذا استقراء العلماء للشريعة في أعظم مصدرين: الكتاب والسنة، وقد دلَّ استقراؤهم على أنَّ هذا الأمر (القول بأن الشريعة وضعت لمصالح العباد) مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. وإن الاستدلال مفيد للعلم لكثرة الأدلة الدالة على ذلك (1)، فإذا كان هذا مقرَّرا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصابيح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟
لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العبّاد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها- لكان هذا القول مرضيا ومقبولا، لأن المكلف مطالبا بألَّا يتوجه ولا يقصد إلاّ ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أنَّ الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة.
ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف لأنّها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره، ويحفظ عليه دنياه وأخراه. ويحسن أن نقرّر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها -سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها- لا يضاد الإِخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال.
ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين، لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم، إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال.
كيف نريد من الذي يريد طهارة -وضوءًا أو غسلا- ألاّ يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى- التنظف والتطيب! وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان
(1) الموافقات 2/ 3، 4.
ألا يقصد التبرد وإنعاش نفسه! فإن قصد هذا القصد حكما على عمله بالبطلان والفساد؟! وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي يتصرف عما تحسّه وتطلبه، فكيف السبيل إلي أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل!
ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذتها ثم يطيق ألّا يقصد هذا النعيم؟! وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سدّ خلَّة الفقير وصلة الأرحام، وتقديم الخير لبني الإنسان، نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟!.
ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!
ألم يقرّنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبّه ونرضاه: {وَأخرَى تُحِبّونَهَا نصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيب} (1)!
وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها! فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التى شرعها، وأبتعد عما حزم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتى تحبها النفس وتتطلبها منها؟!
إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين: أطباء ومهندسين وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال.
لا يجوز أن يحتجّ علينا في هذا بأنَّ الشارع لم يرتض أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية، بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا،
(1) سورة الصف /13.
وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله- لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع.
نعم نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع فنطلبه مع أنه -في واقع الأمر- ليس بمطلوب ولا مقصود له.
وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلاّ المصالح التي نص الشارع عليها، والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من النّاس وإنما هي شريعة عامة، جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه. لننظر في هذه المرغبات التي يجلّيها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (1). ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2). ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3)، {وَمَنْ يَتقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يسْرًا} (4).
(1) سورة نوح /10 - 12.
(2)
سورة النور / 55.
(3)
سورة الطلاق /2 - 3.
(4)
سورة الطلاق /4.
هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه -وايم الله - العبودية الحقّة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1). نعم لو قالوا كما قال الشاطبي (2): بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله- لكان قولهم صوابا.
(1) سورة البقرة /201 - 202.
(2)
الموافقات 1/ 147.